اليوم 127 منذ إصابتي بكوفيد طويل الأمد.
أهلًا من جديد.
يوم آخر يمر في هذه المأساة الإغريقية.
ذهبت اليوم -كما تعلمون- لإجراء رسم العضلات والأعصاب في تلك العيادة المغمورة في شارع مراد. كنت لأقوم بإجراء الفحص في واحد من تلك المراكز الكبيرة المعروفة، لكن الطبيبة نصحتني بهذا المركز بالذات. تقول أمي إن الطبيبة تأخذ نسبة من الأرباح إذا قامت بتوجيه مرضاها إلى هذه المراكز، أخبرتها -أمي- أنني لا أمانع إذا حصلت الطبيبة على «قرشين زيادة» في هذا الوضع الإقتصادي الحرج.
قمنا بركن السيارة على مسافة 400 مترًا من مكان المركز، من الصعب العثور على سنتيمتر واحد شاغر في هذا البلد هذه الأيام.
قلبي مجنون تمامًا، لا أستطيع المشي مترين من دون التوقف لالتقاط أنفاسي، والشعور بأن كلًا من كتفيّ وذراعي الأيسر يحترق من الداخل. كانت أمي تسبقني أمتارًا عديدة، ثم تلاحظ أنني لست على مرأى منها، فتقف قليلًا تنتظر أن ألتقط أنفاسي وألحق بها.
كانت العيادة في برج مراد الإداري، وهو برج يضم واحدًا من أكبر تجمعات الأطباء في القاهرة. تدلف إلى المبنى لتجد أمامك جدارًا كبيرًا مغطى بأكمله بلافتات تحمل أسماء أطباء وعيادات ومراكز أشعة وتحاليل وأشياء أخرى.
تقول اللافتة إن العيادة في الدور الحادي عشر، دلفنا إلى المصعد الخاص بالأدوار ذات الأرقام الفردية، وحاولت أن أكتم أنفاسي داخل المصعد، لأن المصاعد -كما تعرف- بيئة مثلى لانتشار كوفيد، حيث تبقى جزيئات بخار الماء التي تخرج من أفواه وأنوف مرتادي المصعد معلقة في الهواء لبعض الوقت، ليأتي شخص أحمق -مثلي- ليتنفسها، ويمرض لمدة عام (أو أكثر).
كانت العيادة.. قذرة بعض الشيء؟ لا تبدو كمكان يقدم خدمة طبية، بل تبدو كشقة عادية تصادف أن بها صالة انتظار. يعرض التلفاز فوقنا مسلسلًا تركيًا رديئًا لم أره منذ العام 2009. كانت أمي تستشيط غضبًا من المظهر العام للعيادة: «قلت لكِ نروح تكنو-سكان، عاجبك المنظر ده؟».
قالت موظفة الاستقبال -والتي لم تكن ترتدي كمامة بالمناسبة، سبب آخر لكي أبدأ في الهلع- إن الطبيب لن يأتي قبل ساعة على الأقل، فقررت أن أذهب إلى زيروكس في الشارع المقابل لطباعة بعض الصور، ما زالت هناك بعض المساحات الفارغة على حوائط غرفتي.
قفزة قصيرة في الزمن: انتهيت من طباعة الصور، أنا الآن في العيادة، أجلس على سرير بدون ملاءة تحتي، مما يعني أن عشرات المرضى جلسوا على/تلامسوا بشكل مباش مع هذا السرير قبلي.
أوكيه، أراك وأنت تهز رأسك يمينًا ويسارًا، وتقول إنني ولا محالة حالة متقدمة من الوسواس القهري. ولكن، انظر، لقد اعتدت أن أكون من أقذر الأشخاص الذين ستقابلهم أبدًا، اعتدت ألا أبالي إذا شرب أحدهم من هذه الزجاجة قبلي أم لا، اعتدت أن أجلس على السرير بحذائي المتسخ، أو ألا أغسل يديّ قبل الوجبات، وأن أسخر من شقيقتي حين تخبرني أن أفعل، اعتدت أن أرفض زيارة الطبيب حين أشعر بالمرض، رغم توسلات أمي لي أن أفعل. صدقني، كانت هذه هي حياتي قبل الجائحة. لم أعد الشخص الذي كنته منذ بدأ هذا الكابوس اللعين، صرت مجرد ظلًا خافتًا من ذلك الشخص.
على أية حال، كان الفحص مؤلمًا بعض الشيء. كان الطبيب يثبّت أقطابًا كهربية على أجزاء من يديّ، وذراعيّ، وساقيّ، ثم يقوم بإرسال شحنة كهربية إلى جزء معين من جسدي، مما يجعلني أنتفض. كان ذلك هو الفحص الخاص بالأعصاب، أما فحص العضلات فقد كان عدائيًا أكثر، حتي أنني صرخت في مرحلة ما من الفحص.
يقوم الطبيب بغرس إبرة في العضلة المراد فحصها، ثم يخبرني أن أقوم بتحريكها بشكل معين، فنسمع صوتًا كالرعد يأتينا من سماعات اللابتوب. يقول الطبيب إن هذا هو صوت العضلة، أعني بالتأكيد أنه ليس صوت العضلة بشكل حرفي، لكنه نوع من الـ mapping على ما أظن، تفاصيل طبية لا تعنيني الآن.
حين قام الطبيب بوخز فخذي الأيمن بالإبرة، شعرت بألم فظيع لم أظن أنه موجود في العالم قبل تلك اللحظة، فصرخت، وطلبت منه أن يزيل الإبرة فورًا، لكنه لم يفعل، بل استكمل الفحص وسط صراخي.
خرجت من العيادة ببعض الجروح السطحية جراء وخز الإبرة، وعضلات فخذ أيمن متورمة، وتقرير طبي يقول إن الفحص لم يظهر أي شيء غير عادي. عظيم، سأعرج الآن من دون داعٍ.
خارج السياق: في طريقي إلى المنزل، رأيت لافتة كبيرة لعيادة طبية في شارع الهرم، تقول اللافتة: «عيادات (شيء ما)، راحتك هي أغلى ما نملك»، وقد جعلني هذا أقهقه قليلًا، لا أدري من أين أبدأ وصلة السخرية من هذا الشعار. هل راحتنا هي شيء ثمين يمتلكه العاملون في هذه العيادة؟ هل يحفظونها في البنوك ويقتلون بعضهم البعض من أجل الحصول على المزيد منها؟ قل إنني متحذلقة، لكن الجملة ساذجة للغاية لتكون شعارًا لأي شيء.
عدت إلى المنزل خالية الوفاض، حصلت فقط على بعض الصور المطبوعة التي قمت بلصقها إلى حائط غرفتي. صورتان لإيان كيرتس، لوحة فارس الموت لسلفادور دالي، وأشياء أخرى.
أما غدًا، فنحن على موعد مع فحص جديد. سنسبر أغوار عضو آخر من أعضاء جسدي: قلبي.
تعليقات
إرسال تعليق