مُولي.

 اليوم صنعت قهوة بحليب منزوع الدسم (أو هذا ما يزعمونه على العلبة). إنها التاسعة صباحًا. مرت ثلاث ساعات منذ الغارة الأخيرة. توقفت الصافرات منذ زمن، وأستطيع الجزم بأن الجميع في طريقهم إلى المصانع الآن. أستطيع أن أراهم، يتفقدون الجميع عند بوابات المصانع الحديدية باحثين عن البقع الزرقاء. ربما تغافلت عن بقعة هنا أو هناك، أسفل حاجبك، بجانب ترقوتك. أينما كانت هذه البقعة فسيجدونها، وقبل أن تقول أي شيء ستكون قد تمزقت إلى جزيئات صغيرة. هؤلاء القوم لا يضيعون وقتًا.

نعم نعم، هذا واقع ديستوبي آخر كما تبادر إلى ذهنك. الأخ الأكبر يعيث فسادًا في مكان ما، والأستاذ سميث يقع في الحب معه كل يوم في أقبية أحد السجون.

أما أنا، فقد أخذت إجازة غير مدفوعة الأجر من المصنع الذي أعمل به لبعض الوقت. أجزم بأن رقائق البطاطس المحمرة تستطيع أن تصمد من دون تعبئة لبضعة أيام.

أمسكت بكوب القهوة بين كفيّ ألتمس بعض الدفء، وقمت أمشي لأسدل الستائر على نافذة غرفة المعيشة. نظرت إلى الخارج، لأرى الشمس من تحت القبة الزجاجية التي تغطي كل شيء. بالكاد أستطيع تذكر ذلك الوقت الذي سبق وجود هذه القبة. يبدو لي أحيانًا أنها كانت دومًا هناك.

أتذكر حين ناداني أخي الأكبر لمشاهدة الأخبار منذ سنوات طوال، فذهبت متذمرةً، إذ أن ذلك استدعى مني قطع جلسة من جلسات اللعب التي كنت أقيمها كل يوم في غرفتي. أتذكر تلك المرأة ذات الوجه المضحك. كيف يكون الوجه مضحكًا؟ لا أدري، لكنها كانت تملك واحدًا من تلك الوجوه التي ينقصها أنف أحمر وخدود موردة حتى تترك العمل السياسي، وتذهب لتعمل في السيرك. وعلى الرغم من طرافة مظهرها، فقد كانت تتحدث بكل الجدية في العالم، وقد تركت في نفسي جمودًا لا تفسير له.

«بعد آخر قرارات الاتحاد بحظر ارتداء الملابس على جميع المواطنين، وحرصًا منا على سلامتكم وسلامتكن، تعلن وكالة الفضاء الشمالية عن آخر ابتكاراتها: القبة الواقية.

 فليرحب معي الجميع بالسيد وارلوس، نائب رئيس وكالة الفضاء الشمالية، وأحد المشاركين في برنامج القبة الواقية، وزوجي بالطبع.»

أذكر التصفيق الحاد، أذكر الوجوه التي كانت تتسلط عليها عدسات الكاميرا، فيبدو كما لو أن أصحابها قد أصابتهم لوثة ما. أذكر أجسادهم والعرق الذي كان يتصبب من كل مساماتهم.

«هاها هذا يكفي أعزاءي، شكرًا للجميع. كما تعرفون، وصلتنا الكثير من الشكاوى بخصوص آخر قرارات الاتحاد. تعرفون أننا قد قررنا التخلي عن قطع القماش التي كان يغطي أجدادنا أجسادهم بها منذ الأبد، وأنتم تعرفونني، كنت سعيدًا للغاية بهذا القرار، فأنا رجل يحب الراحة، وهبوب نسمات الهواء في الأماكن الصحيحة.» فيقهقه الجميع ضاحكين لثواني، قبل أن يستكمل وارلوس: «منذ ذلك الحين، وصلتنا اقتراحات وشكاوى بخصوص عدم تناسب الطقس في كثير من البقاع مع الخروج في العراء من دون طبقة واقية من الملابس. تناهت إلى أسماعنا أحاديث عن التراب، والصقيع، وحروق الشمس، ونحب أن نطمئنكم أن كل ذلك قد وُضع في الاعتبار. بدءًا من الشهر القادم، سيتم تطبيق مشروع القبة الواقية، قبة بحجم أرضنا كلها! القبة ستسمح بمرور الكمية المناسبة من ضوء الشمس، فقط ما يسمح بطقس معتدل، وهواء نقي، وكمية مناسبة من الأشعة فوق البنفسجية، لضمان استمرار النظام البيئي. لا مزيد من موجات الجفاف، لا مزيد من الصقيع وعواصف البَرَد. ستسمح لنا القبة الواقية بالتخلي عن الملابس بشكل نهائي، ستسمح لنا بوضع الملابس في موقعها الحقيقي من الإعراب: مجرد قطع من القماش لحماية الجسد من تقلبات الطقس. فإذا اختفت تقلبات الطقس، فما الداعي إليها؟ هل تريدون إضاعة وقتنا الثمين في اختيار الزي المناسب كل صباح قبل الذهاب إلى العمل؟»

فتهلل الجموع بحماس: «لا، بالطبع لا»

«هل تريدون العودة إلى تلك الأيام حين كان الناس يدفعون النقود لشراء قطع القماش تلك؟ هل تذكرون تلك المهازل المسماة بعروض الأزياء؟ أي مهازل، وأي نكات كانت هذه؟»

فيُهَمهِم الجميع ويهزون رؤوسهم في استنكار.

فيستطرد السيد وارلوس: «سوف نسود يا رفاق، ليس بارتداء قطع القماش الملونة ذات الأشكال الجذابة تلك، ليس بالنظر إلى انعكاساتنا في المرآة، ليس بمحاولة إبهار بعضنا البعض بأذواقنا وقمصان فرقنا الموسيقية المفضلة، بل فقط باعتناق آدميتنا بشكل كامل، بالشكل الصحيح. الإنسان كما أرادت الأرض له أن يكون. 

تعرفون بالطبع أن الملابس تطبيق شرير لفكرة أن الإنسان أسمى وأفضل من زملائه على هذا الكوكب الصغير. خطأ! خطأ!

دعونا نترك كل ذلك خلفنا، هذا هو العالم الجديد، عالم الإنسان الحق.»

تذكرت كل ذلك وأنا أسدل الستائر، لقد انحفر ذلك الخطاب في عقلي، أعني، إنهم يبثونه كل يوم تقريبًا، لم يُترك لي خيار بهذا الشأن.

توجهت نحو تلك الكوة الصغيرة في حائط منزلي، والتي -كما توقعت أنت- أخفي فيها بعض الملابس، ومرآة مستطيلة كبيرة بعض الشيء، وهي عملة نادرة قد تصنع لي ثروة لا بأس بها إن قررت بيعها في يوم من الأيام.

ابتعت الأسبوع الماضي زيًا جديدًا من صاحب محل الأسماك في الشارع المجاور، أخبرني أن الناس كانوا يرتدون مثل هذا الزي في الحفلات الموسيقية. تنورة قصيرة من الكتان، وجوارب شبكية طويلة، وقميص بأكمام قصيرة عليه صورة مبهرجة ما، أظنها لأحد الألبومات الموسيقية لفرقة غابرة من القرن الماضي.

لم أظفر بلحظة واحدة منذئذ لأجرب زيي الجديد، العمل في مصنع رقائق البطاطس مرهق للغاية في الآونة الأخيرة، أو دعونا نقول إنهم صاروا يغرقوننا بالعمل إغراقًا عن عمد، خصوصًا في فترة «التقلبات الأمنية الأخيرة» كما يطلقون عليها. فقد بدأ الناس في إقامة حفلات سرية، وفعاليات يذهبون إليها مرتدين شتى أنواع الملابس، ويتناولون المشروبات والمقبلات والوجبات السريعة، ويتبادلون النكات والأحاديث القصيرة التي لا طائل منها، ولا معنى عميق من ورائها. تمامًا مثل الأيام القديمة.

وبدأ العمل في مصانع سرية لإنتاج خطوط أزياء جديدة، فلم يتم تصنيع أي ملابس جديدة منذ ما يقرب من العشرين عامًا، وبدأت الملابس المتبقية من العهد القديم تهترئ وتبلى بفعل الزمن. الجميع يعرف أن ممولي هذه المصانع هم من نخبة القادة، وبعضهم من مقربي السيد وارلوس نفسه الذين يتجولون عراة حوله طوال اليوم، لكن تظل الغارات شبه اليومية تستهدف وتقتل عمال هذه المصانع ومرتادي تلك الحفلات كل يوم على أية حال، فقط من أجل حفظ ماء الوجه على ما أظن.

انسللت داخل الملابس بخفة بعد أن قمت بإسناد المرآة إلى الحائط فوق المنضدة، وكنت في خضم عملية ارتداء الجوارب الشبكية، حين سمعت طرقات على باب شقتي، جعلتني أجفل وأقفز وأحط على أطراف أصابعي، أما ضربات قلبي فقد باتت كالنواقيس. 

تمالكت نفسي، ليس هذا وقت الفزع يا امرأة. خلعت التنورة بسرعة، وتناولت المرآة، وأعدت كل شيء إلى مكانه السابق في بضعة ثوانٍ. ألقيت نظرة شاملة على المشهد بحثًا عن أي شيء قد يكون مثيرًا للريبة، آه، الستائر المُسدلة، حسنًا فلنزيح تلك الستائر جانبًا، ها نحن ذا، هذا أفضل.

مشيت نحو الباب، وقفت قليلًا هنالك، أستمع إلى الأصوات بالخارج، لعلي أستشف عن هوية الطارق. 

الطرقات من جديد! حسنٌ، فلنر من هناك.

فتحت الباب ببطء، ونظرت، لأرى صديقًا قديمًا لم أره منذ أيام الدراسة.

«مصطفى؟ ماذا تفعل هنا؟ وماذا...»

في تلك اللحظة، كنت قد لاحظت أنه ليس وحده تمامًا، فبين ذراعيه كان يحمل جسدًا لامرأة نحيلة تبدو في العشرينات من عمرها، عينان مغمضتان، جسد متراخٍ، وأستطيع من هنا أن أرى البقع الزرقاء على بطنها.

«عليكِ أن تأخذيها الآن! خذيها، إليكِ.»

قالها وهو يدفع بالجسد الخامل نحوي.

«مصطفى من هذه؟ ماذا فعلت؟»

«لا وقت، لا وقت، مُولي المسكينة، لم تستطع التحمل. هناك غارة أخرى الليلة أنا متأكد من هذا، ولكننا سننفذ ضربتنا الليلة أيضًا، هيا، هيا خذيها، تعاملي معها، أنتِ تعرفين كيف تتعاملين مع هذه الأمور»

هذه الأمور؟ الأجساد الميتة؟ أنا أعرف التعامل معها؟

لم يترك لي خيارًا، فقد ظل يدفع بالجسد نحوي، وخشيت أن يبدأ سكان البناية في الخروج ورؤية هذا المشهد، فينتهي بنا الأمر في إحدى الزنازين ننتظر مصيرنا في التحول إلى غبار كوني.

 تناولت منه الجسد، الذي كان ثقيلًا للغاية، فاختل توازني ووقعت معه على أرض شقتي أمام الباب. أما مصطفى فقد غاب عن الوجود ما أن تأكد أن الجسد مسئولية شخص آخر غيره الآن. 

أوصدت باب الشقة بإحكام وأنا أحاول تمالك نفسي، تباطأ يا قلبي الآن من فضلك، أو تسارع، لا أدري، لا يمكنني أن ألومك كثيرًا إذا أردت أن تتسارع، فصاحبتك في موقف لا يضاهي أي شيء سوءًا.

وقفت أتأمل الجسد المسجى على أرض شقتي. هل قال إن اسمها مُولي؟ قال شيئًا عن أنها لم تستطع التحمل أيضًا. كان شعرها بنيًا وقصيرًا، مما أبرز وجهها العظمي، وكانت بشرتها خمرية، لكن كل هذا لا يهم الآن.

«كنتِ نحيلة للغاية يا مُولي.»

ماذا سأفعل؟ لدي جسد ميت عليه بقع زرقاء في شقتي. هل تعلمون ما يعنيه هذا؟

حتى لو حاولت اختلاق قصة مغزاها أن هذه الفتاة هي صديقتي التي توفت فجأة بنوبة قلبية، فإن البقع الزرقاء ستفضح أمري. ليس بحوزتي ذلك المستحضر الذي يستعملونه لإزالتها، وأسمع أنه ليس رخيص الثمن.

لم يتم رشي بذلك السائل الأزرق من قبل، لكني أتذكر حين شارك شقيقي في واحدة من تلك المسيرات الليلية التي يرتدون فيها الأقنعة التنكرية، ويهتفون بالشعارات المعارضة التي لا طائل منها، نعم، ستفهم أن لا طائل منها أنت أيضًا حين تعرف كيف انتهى المطاف بأخي. أخبرني زملاؤه أن بضعة نقاط من ذلك السائل الأزرق الذي اندفع من خرطوم أحد رجال حفظ السلام قد حطت على وجهه، خدّه الأيمن بالتحديد. يقومون برش هذا السائل غير القابل للإزالة على جماعات المعارضين. سيتركونهم ليتظاهروا، ليسبوا النظام، ويصرخوا ويهتفوا ويهزوا الأرض تحت أقدامهم، ويشعروا أنهم جزء من شيء أكبر منهم جميعًا.

وفي الصباح، حين يذهب الجميع إلى أعمالهم -لأن عليهم الذهاب إلى أعمالهم-، وإذا كنت غير محظوظ كفاية للحصول على مزيل البقع الزرقاء النادر باهظ الثمن، وحين يجد الحراس على أبواب المصانع تلك البقع الزرقاء على جسدك من آثار الليلة الماضية، كدليل لا يدحض على كونك حشرة غير ممتنة، فإن آخر شيء ستراه هو فوهة مفتت الجزيئات. ستتحول إلى غبار كوني غير مدرك، أو غير مهتم بشئون هذا الكوكب الصغير، غير عابئ بمعارضة قرارات أحد الأجناس المتطورة بعض الشيء بعدم ارتداء الملابس.

لابد أن مُولي كانت في مسيرة معارضة إذن، أو ربما حفل سري ما، أو كانت تعمل في أحد مصانع الملابس تلك. ربما ماتت من الفزع، أو مختنقة من قنابل الغاز. لا أدري، لكنها لم تكن محظوظة بما يكفي، وانتهي بها الأمر جسدًا هامدًا على أرضية صالوني، صالون شقة تملك صاحبتها بعض الملابس، ومرآة. أي أقدار هذه؟

حسنٌ، لا وقت للفزع، ولا قيمة من محاولة إيجاد معنى من موت هذه الشابة. فلنباشر بالعمل إذن.

أسدلت الستائر، وبدأت في جر الجسد الهامد، ببطء وبصعوبة، لكن الإزاحة مؤكدة. استغرق الأمر خمس دقائق حتى أصل بها إلى باب الحمام. سأرفعها الآن من تحت إبطيها، وأُجلسها على محيط حوض الاستحمام، ثم أدفع ببقية الجسد إلى داخل الحوض.

حسنٌ، كان هذا هو الجزء السهل. عليّ الآن أن أجد سكينًا حادًا بما يكفي. لن تكون العملية سارة، لكنها واجبة. عليّ أن أتخلص من هذا الجسد بأي طريقة، ولا أسلم ولا أسرع من تقطيع الأوصال، والتخلص منها في نشارة الخشب في المصنع المجاور. هذه هي الطريقة المجربة المتفق عليها هذه الأيام. بالتأكيد ستساعدني مارتا، صديقتي القديمة، فقد ساعدت الكثيرين في التخلص من أجساد ذويهم بعد أن قتلتهم الغازات السامة، أو جروح الرصاصات، فإقامة حفل تأبين أو جنازة لأحد المعارضين ثم دفنه هو فعل معارض في حد ذاته، وستنتج عنه المزيد من الجثث على الأغلب.

تعلمت من تجارب الآخرين أن إفراغ الجثة من الدماء أولًا يجعل من عملية التقطيع فالنشر أسهل وأقل إثارة للفوضى، فلا تجد أنك مُغطى بالدماء من رأسك حتى قدميك بعد انتهاء العملية، كما أن ذلك يجعل الأمر أسهل على مارتا بالتأكيد، ويقلل من احتمالية كشف أمرها، ومن الفوضى التي سيتعين عليها تنظيفها.

أحضرت أفضل سكين لديّ من المطبخ، وأمسكت برسغ الفتاة التي لم تعد فتاة بعد الآن. يا للسماء، لاحظت لتوي أن جسدها ما زال ساخنًا لم يبرد بعد، لابد أن ما حدث قد حدث منذ ساعة على الأكثر.

اخترت موضعًا في رسغها، وغرزت به السكين، ثم سحبته لأصنع جرحًا قطعيًا عميقًا. بدأت الدماء في التدفق على الفور، لابد أنني أحدثت قطعًا في شريان ما.

وضعت السكين جانبًا، وجلست على حافة حوض الاستحمام ألهث، وأحاول التقاط أنفاسي.

والآن، كل ما علينا فعله هو أن ننتظر. ننتظر أن يفرغ الجسد من الدماء تمامًا.

حوض الاستحمام يمتلئ بالدماء الآن، وبدأ الجسد في الشحوب والازرقاق شيئًا فشيئًا.

نظرت إلى كل هذا في أسى، وشعرت برغبة في البكاء. أنا أتخلص من جسد بشري آخر كما لو كان مخلفات عشاء الليلة الماضية، لا شيء يُذكَر، خوفًا على رقبتي من أن تطير إذا عرفوا بوجود هذا الجسد هنا، دعك من حقيقة امتلاكي لبعض الملابس أيضًا.

لا، لن ألحق بأخي. لقد نجوت طوال هذه السنوات، ولن أسمح لجسد هامد لم يعد يشعر بأي شيء أن يلحقني به، أن يجعلني جسدًا هامدًا لا يلوي على شيء هو الآخر، لا يقدر على ارتداء الملابس والشعور بشيء ما عند ملامسة تلك الأقمشة لجلده، الشعور ببعض الغبطة عند خلع تلك الأقمشة بعد يوم حار، ببعض الدفء عند ارتدائها بداخل مقهى بينما تزأر عاصفة بالخارج، ببعض الإثارة عند التجرد منها أمام أحدهم للمرة الأولى. 

بقيت أنظر إلى الجسد والدماء المتدفقة منه لدقائق طويلة. أفكر كيف أنهم في النهاية تمكنوا من «وضعنا في موضعنا الحقيقي» كما يقولون. الجسد البشري لم يعد يمثل أكثر من مخلفات عشاء ليلة أمس، نتخلص منها حتى لا يؤرقنا الذباب فيما بعد، لنفسح المجال لأعشية أخرى في ليالٍ أخرى. لا جنائز، لا تعازي، لا حفلات تأبين نرتدي فيها السواد، ونواسي هذا وذاك. فقط عظام، وجلد، ولحم.

أيقظني صوت الانفجار بالخارج من كل هذه الخواطر. كان انفجارًا مدويًا لدرجة أنني رأيت بعض الموجات الاهتزازية في بركة الدماء بحوض الاستحمام. تُرى ما كان هذا؟

لم تتسن لي الفرصة للتفكير في احتمالات كثيرة، إذ سمعت رنين هاتفي في الغرفة المجاورة. عرجت في اتجاه الصوت، وتناولت الهاتف. تقول الشاشة إنه اتصال من مجهول.

«من هناك؟»

سألت، وأنا أعود أدراجي إلى الحمام.

«لقد فعلناها، إنهم يتساقطون! لقد فعلناها يا دافينا. سمعتِ الصوت بالطبع، صحيح؟»

«من هناك؟ مصطفى؟»

«نعم يا حمقاء، هذا أنا. تعالي إلى الخارج، الجميع يحتشد الآن، فلأُشنَق إن لم تكن هذه هي النهاية. إنها نهايتهم»، ثم جاءتني أصوات لضحكات هستيرية من على الجانب الآخر، وأشخاص يهتفون بأنشودة ما، قبل أن يأتيني صوت مصطفى من جديد:
«ولكن قولي لي الآن، طمئنيني على مُولي، هل استيقظت؟»

«هاه؟»

«أعلم أنها ليست شديدة المراس مثل بقيتنا، لم تتحمل كل ذلك الضغط العصبي في الفعالية الأخيرة، لكنها تفقد الوعي كثيرًا، أظنه نقصًا في الحديد كما تعلمين، أو ماذا أقول؟ أنتِ لا تعلمين، فأنتِ لم تريها أبدًا في حياتك هاها، لابد أن نصر اليوم قد أصابني بلوثة ما، لابد أنك تتفهمين، كان عليّ أن أترك مُولي في أيدٍ أمينة حتى ننتهي من كل هذا. ولكن هيا الآن، ضعيها على الخط. مُولي، لقد فعلناها يا عزيزتي»

كنت الآن واقفة في الحمام، أقف أمام حوض الاستحمام الذي تملأ الدماء ربعه الآن، ومولي، الجسد النحيل الذي صار باللون الأزرق والبنفسجي الآن، مستغرقة بداخله.

جلست ببطء على حافة حوض الاستحمام، لا أزيح ناظري عما بداخله.

«هيا مولي، ضعيها على الخط، أعرف أنها استيقظت. هاهاها إنهم يتساقطون كالذباب يا مولي. سأحضر لكِ فستانًا، وقميصًا حريريًا كما وعدت. بالضبط كما وعدت.»

أطلت النظر إلى الوجه الشاحب العظمي في حوض استحمامي، وعلى الجانب الآخر من الهاتف يأتيني صوت اللهاث، والهتاف، والضحكات المتوترة.

«مولي ستكون معك خلال دقائق يا مصطفى، دعها فقط فهي تستحم الآن».

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من القطط والبشر.

شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (2)