شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (2)

"لقد ابتعدنا كثيرًا عن المحطة" 

بدا على وجهها الوجوم إذ قاطعتنى وأنا فى خضمّ مناقشة حامية لإثبات قدرة الثعابين على التنبؤ بحدوث الزلازل، وكيف أن علماء الجيلوجيا الحمقى لا يستغلون ظاهرة طبيعية رائعة كهذه .. 


"أوه، هل كنتِ تنتظرين أحدهم هناك؟"


"نعم، صديق لى، أراهن أنه يقف هناك الآن بانتظارى، ولا أظنه قد أحضر معطف المطر خاصته .. يبدو لى أن السماء لا تنوى أن تحنو علينا الليلة"


نظرنا إلى السماء الرمادية، وبقايا دفقات الضوء الأرجوانية الباهتة التى ترسلها الشمس الغاربة فى يأس، فلا تفلح إلا فى أن تجعل المشهد أكثر بعثًا على التوجّس .


"ليتكِ تغربين فأنتِ لا تزيدين الوضع إلا سوءًا"


"معذرةً؟"


"الشمس .. كرة النار الحمقاء التى تدور فى مركز الأشياء تلك"


"آآهاه"


عدنا أدراجنا إلى رصيف محطة المترو، بعد دقائق من السير المتعرج الصامت .. بدأ تأثير الكحول ينحسر ببطء من خلاياى، وأكاد أشعر بمنسوب الدوبامين وهو ينخفض تدريجيًا .. لأعود لصوابى وأبدأ فى التساؤل:

- من هذه الفتاة التى تسير بجانبى بحق الجحيم؟ ولماذا ذهبت لأحدثها من المقام الأول وكأنها صديقة قديمة؟ منذ متى وأنا أحدث الغرباء فى الشارع؟ فكرةُ مَن الحمقاء هذه؟

"هذا هو، لقد وصل"

كذا صاحت، ثم سبقتنى ببضعة خطوات مُسرعة نحو فتى نحيل ذى شعر بنىّ طويل مجعد منسدل، يصل إلى كتفيه، وشارب خفيف مع لحية شبه حليقة .. يرتدى ملابس سوداء مهلهلة أكبر من المناسب له بمقاسين على الأقل .. معطف أسود باهت يُدهشنى أن العثة لم تأكله حتى الآن، وبنطال قماشى شارلستون أسود، وحذاء لامع من الجلد الأسود .. بدا لى كل هذا كخليط غير متناسق إذا نظرنا من خلال عينىّ أى مصمم أزياء معاصر، لكن مَن أنا لأبدى رأيى على أية حال؟ 

آه هنا حيث تبدأ اللحظات المحرجة، بالتأكيد سيودّ لو أن يسأل مَن أنا، ولِمَ أتسكّع مع صديقته؟ 

حسنٌ، يمكننى أن أنتهج الصدق وأخبره: آه كما ترى، فقد رأيت صديقتك فى الحلم الليلة الماضية، وقد قبّلتنى وتركت على شفتىّ مذاق الفراولة والتوت .. هل تصدق هذا؟ الفراولة والتوت فى آن واحد! .. أحيانًا تثير دهشتى الابتكارات الجديدة التى تخرج بها شركات مرطبات الشفاة هذه الأيام..
أو ربما علىّ أن أقول: أنا زائرة من المستقبل، أحاول اخبار صديقتك أن الثعابين تستطيع التنبؤ بحدوث الزلازل .. وأن عليها الوصول إلى رئيس الشبكة القومية للزلازل فى أقرب فرصة، واقناعه بشراء دستة من الثعابين حديثة الولادة، حتى نتمكن من انقاذ المزيد من الحيوات .. فكما تعلم فإن الحياة هى أكبر هبة وهبتها إلينا الطبيعة/الله/يسوع/إلهك الخاص وعلينا الحفاظ عليها كما تعلم ههه ..
لا، انس الأمر .. يبدو هذا كشىء يمكن أن يقوله ملحد مراهق حديث العهد بالقراءة، ويحاول أن يلقى بدعابات هجومية غير واضحة فى وجوه المؤمنين، ربما ليشعر بالتفوق والرضا عن نفسه..نحن جميعًا نحب أن نشعر بالتفوق والرضا عن أنفسنا..

"هذه .. آمم .. صديقةٌ لى"

قالتها مترددةً وهى تشير نحوى، فأومأ هو برأسه ومدّ كفّه مُرحبًا بطريقة عملية راقت لى كثيرًا..
فيووو، أتنفس الصعداء، حسنٌ كان هذا سهلًا ..

"إذن، إلى أين الآن يا ثنائى الغرباء اللذين قابلتهما منذ قليل بجوار محطة المترو؟"


قالت الفتاة: "أوه لا شىء، فقط نسير"

أومأت برأسى فى استحسان قبل أن أتمتم: "كم أن هذا يروقنى"

أخذت أحذيتنا تقرقع على الرصيف وقد حلّ صمت مطبق على ثلاثتنا، قررت أنا أن أقطعه قائلةً: 
"الشوارع خالية على غير العادة، أليس من المفترض أن تكون هذه ساعة ذروة أم ماذا؟"

استرقت النظر إليهما فوجدتهما يتبادلان النظرات، ثم قال الفتى بصوته العميق:
"ألا تعلمين ما الليلة؟"

"إنها ليلة الجمعة على ما أظن"

"آه لا، لا أقصد موقع الليلة من أيام الأسبوع. من أين أنتِ؟"

"أنا..حسنٌ لا يهم من أين جئت، لكنى لست من هنا"

"آه هذا يفسر الكثير، فالليلة هى موعد حدث سنوى معروف إلى مدينتنا"

مازحةً قلت: "أهو شىء كالأول من أيار؟ وستقوم مظاهرات تنادى بعودة نظام جمال عبد الناصر والمنامات الزرقاء المخططة ههه؟"
لم تندّ عنهما أى بوادر لقهقهة ساخرة كما توقعت، فلملمت بقايا الـ"ههه" خاصتى وصمتّ..
هنا توقفا فى آن واحد، فتوقفت معهما..
"ماذا؟"
ظلا يتبادلان النظرات معًا لبضعة ثوانٍ، قبل أن تقول الفتاة بصوت خفيض:

"انس الأمر، تبقت ثلاث دقائق على العاشرة"


بدأ الأمر يثير حفيظتى، فالجميع هنا يتصرفون بغموض مضحك وكأنهم يعلمون شيئًا لا أعلمه أنا، لكنهم يحذون حذو بخلاء الجاحظ فلا يشاركوننى تلك المعرفة الثمينة.


"ما بكم يا رفاق؟، هل قادنى حظى العاثر إلى مدينة بها معقل لجودزيللا؟ وهذه هى ليلة خروجه من مسكنه ليتنزه فى ميدان التحرير؟ وقد بقت ثلاث دقائق على ساعة الصفر؟ لا أظننى رأيت كهوفًا ضخمة إلى حد أن تأوى جودزيللا وأنا فى طريقى إلى هنا..هيا ما بكم؟"


تبادلا النظرات من جديد كما لو كانا مُحققين بمعاطف مطر بنية فى مسلسل بوليسى ردىء، وبدا أنهما على وشك الإفصاح بشىء ما..لولا أن بَرقَت السماء فى لحظتها برقًا صامتًا، كان من الشدة ليضرب سطح البناية القديمة بجانبنا، فتهتز له لافتة إعلانات منظف الصحون بالأعلى..

تمتمت: "ووه كان هذا قريبًا"
ثم التفتّ لأرى وجهين مذعورين ينظران إلى السماء فى رهبة..

وضع الفتى يدًا فوق كتف الفتاة وكأن ليثنيها عن الهرب، قبل أن يقول:

 "لقد بدأ" 

"ماذا يحدث هنا يا رفاق؟، ما الذى نشهده ها هنا؟"


"صديقتى، لقد قادك حظك العاثر إلى هنا وإنى آسف لهذا..أو ربما هو القدر، ربما ارتكبتِ إثمًا لا يُغتفر، وقد قرر هو أن يرشدك إلى هنا"


ثم تحدثت الفتاة التى قبّلتنى فى أحلامى، وقد كانت ترتجف الآن: 


"هذه هى الليلة التى يرسل هو غضبه على الخاطئات، اللاتى ضلّ سعيهن..إن أردتِ نجاةً فلتدثّرى رأسكِ فورًا..فهو يمقت تكتلات الخلايا المصنوعة من الكيراتين الملتحمة برؤوس النساء"


بدأت أفهم الآن، هذان شخصان يرمحان نحو موتهما..فراشات ساذجة تجذبها النيران..

 لقد أدركا أنه لا مفرّ منه، سوف ينال منك دومًا، ولو حاولت الفرار فسيطاردك..فأين الثغرة خلال استراتيجيته المحكمة تلك؟

أنا أعلم ما الليلة، فى الحقيقة كنت أعلم منذ البداية..هذه ليلة الحصاد السنوى، الثامن من أبريل، سيرسل البروق لتحصد أرواح الخاطئات والخاطئين، لكن الأولوية دومًا للخاطئات كما نعلم جميعًا..

ستأخذنا البروق كأضواء الأطباق الطائرة حين تطفو فى الهواء فوق البشر، وترفعهم نحو الكوة فى أسفلها ومن ثم إلى داخلها..

لقد جئت هنا واليوم بالذات خصيصًا من أجل هذا الحدث السنوى..والليلة سأكون على متن واحدٍ من أطباقه الطائرة..


الرعد يدوّى فتهتز الأجراس بداخل المقاهى المغلقة..مَن يضع أجراسًا فى المقاهى بحق السماء؟
لا زالت الأمطار الحامضية تتساقط مُحرقةً مسام جلودنا..

"ترغبان فى مقابلته أيضًا هه؟"


"نودّ لو أن ننهى الأمر برمته، لا فائدة من الهرب، سنكون رقمين آخرين فى الجحيم على أية حال، الآن أو بعدما تنقضى السبعون سنة خاصتنا على هذه الأرض..فلنفعلها الآن..لن نظل نقضى هذه الليلة من كل عام مختبئين فى جحورنا كالفئران"


ثم ابتسم وأردف: "فقط أتمنى لو أنهم لا يملكون تحفظات جندرية هناك أيضًا فيضعوننا فى جناحين منفصلين"


"حظًا سعيدًا لكليكما" 


"ماذا عنك أنتِ؟ هل لديك رغبة فى التحول إلى قطعة فحم آدمية الليلة؟"


"أنا فقط..أرغب فى مقابلته"


أومأ كلاهما برأسه فى تفهم..كنا نقف الآن فى بقعة فارغة مفتوحة بلا سقف..لا شىء يظلّنا..أهداف سهلة على مرأى العين..


"لا عليكِ الآن، سوف ينتهى كل شىء فى أى لحظة الآ.."

سيل برق آخر يسقط ليضع نهايةً لكل هذا الخليط الغير متناسق من الملابس..تهاوى المعطف الأسود الباهت على الأسفلت، خاويًا اللهم من رماد أسود ودخان..

أما صديقته فقد نالت ذات المصير خلال ثوانٍ..نعم، نحن فى عالم تضرب فيه البروق ذات المكان مرتين متتاليتين..

شاهدت إذ احترق شعرها الأسود أولًا، قبل أن ينفجر ما قد كان جسدها إلى رماد ودخان هو الآخر، فلم تجد الوقت لتصرخ..

ثم ها هو الرعد من جديد..


هبّت الريح فى الاتجاه المعاكس، فتطاير رمادهما من حولى..لابد أنه يراقب هذا المشهد السينمائى الآن فى رضا..


خطوت خطوة إلى الخلف..رفعت رأسى وذراعىّ الملطختين بالرماد المبتل صوب السماء، وتركت الماء الملوث ليتساقط فوق وجهى، داخل فمى..يبدو للناظر من بعيد كما لو أننى أتضرع، مثلما تحب أن تفعل حشرة فرس النبى أحيانًا..

لكنى لم أكن أتضرع..فلأُشنَق لو كنت أفعل..

"هيا هيا، فلتأخذنى الآن"
وقفت أنتظر دفقة البرق التالية...

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من القطط والبشر.

مُولي.