ركلٌ مبكرٌ للصندوق..شراءٌ مبكرٌ للمزرعة.

أيراودك أبدًا ذلك الشعور بأن كل شىء ممل ومُضجر وقد حدث من قبل؟ ..أن كل ما سيحدث وكل ما هو آتٍ ما هو إلا تجربة سابقة عاصرتها فى زمن ما، فعلتها لمرات غير معدودة لكنك لا تتذكر أنك فعلت..لا لا أتحدث عن تناسخ الأرواح والهراء البولتارجايشتى هذا..كما لا أقصد أمرًا بديهيًا كالديجا فو..لا لا
ما أقصده هو أنك تعرف يقينًا أنك لم تعش هذا الموقف قبل اليوم أبدًا، لم يسبق لك اختبار هذا، بَيْد أن الأمر -لسبب لا تدريه- يبدو مملًا معادًا ومبتذلًا..
أمثلة؟ حسنٌ، إليك القليل منها..
أمثلة: 
1-كأس الخمر الأول لك..تجلس إلى البار ترقب الساقىّ الأصلع إذ يصبّ السائل الشعيرىّ من على بُعد، مُستلقيًا برأسك على راحة يدك..يسألك أصدقاؤك فى نشوة: "وووه هل أنت متحمس؟" بينما يهبط أحدهم بكف يده على ظهرك مداعبًا..فتومئ برأسك فى لا مبالاة ووجه محايد..
على الرغم من أن بروتوكول التجربة البشرية يملى عليك إملاءًا أنه من المفترض أن تكتنفك مشاعر مختلطة إثر كوب الخمر الأول لك، مشاعر لا تتضمن الملل والإبتذال بالطبع..لكن بشريتك تخذلك بغتةً ويتسلل إليك الملل متخفيًا بداخل حصان خشبى، رغم أنفك...
تُرى، كم عدد هؤلاء الذين نالوا كأس الخمر الأول خاصتهم أمام هذا البار؟..كم عدد من فعلوا ذلك فى العالم بأكمله؟..تستطيع أن تشعر بانفعالاتهم وتعابيرهم لا زالت تطفو فى الأثير حولك..وتستطيع أنظمة السونار خاصتك التقاطها بسهولة، ومن ثم الاعتياد عليها، ومن ثم الألفة بها، ومن ثم السأم منها..كلهم يشعرون بالشىء ذاته..النشوة ذاتها..اللهفة ذاتها..ألا يخجلون من مشاعرهم الباعثة على الضجر؟..

2-الوقوع فى الحب، ويوصف هذا بفاكهة التجربة البشرية الأجمل والأكثر احتواءًا على الفركتوز..لمحة من رحيق الآلهة..ويعدّه البعض -من معشر الحالمين- الغاية الأسمى من وجود البشر..شىء عُلوى نقىّ..
لكنك لا تملك أمام ذلك إلا أن تنفث ثانى أكسيد الكربون المختلط بأبخرة لفافة التبغ خاصتك فى حنق، وتتساءل، متى ستنتهى هذه المهزلة الباعثة على الضجر؟..هل تملكون ساقية فيريس هنا؟ شىء باعث على المتعة لقضاء الوقت؟، إلى أن تنتهى تلك القصة المضجرة؟ لقد سمعتها من قبل، لقد عاصرتها من قبل، وأنشأت لها نوادى القراءة وأقمت الندوات على شرفها..كتبت عنها عددًا لا يحصى من المراجعات والتنقيحات رديئة الجودة..فهلّا انتهينا من هذا الآن؟..
تستطيع أن تشعر بانفعالاتهم وتعابيرهم لا زالت تطفو فى الأثير حولك..وتستطيع أنظمة السونار خاصتك التقاطها بسهولة، ومن ثم الاعتياد عليها، ومن ثم الألفة بها، ومن ثم السأم منها..كلهم يشعرون بالشىء ذاته..النشوة ذاتها..اللهفة ذاتها..ألا يشعرون بالملل من الاستماع إلى المقطوعة ذاتها كل يوم إلى الأبد؟

3- الموت، لماذا نبكى مفقودينا؟..كيف يتأتّى لنا أن نشعر بأن الفقد خاصتنا أسمى وأعلى وأكثر تفرّدًا من الفقد خاصة أى شخص آخر؟..كيف نفعل ذلك؟..الموت يحدث كل يوم فى كل بقعة، داخل كل دغل، وسط كل ساحة حرب، فوق كل أريكة بكل منزل يعتلى أحد التلال..بَيْد أننا نخفق دومًا فى اعتياد الأمر..كل مرة هى كأول مرة..وإننى لأرى فى ذلك تجليًا لواحدة من قدرات البشر الخارقة..
..
أنت تعرف القصة وتعرف نهاية القصة وتعرف الحواشى الإضافية والمسودات..يبدو الأمر كالركض فى ماراثون منفرد لا ينتهى، عليك أن تركض وحدك فى المضمار البرتقالى للأبد، لا تملك التوقف، لا تملك إلا اللهاث والتعرق واحتساء الماء الذى سرعان ما ستتعرقه من جديد فى دورة أبدية..
لقد استذكرت التجربة البشرية عن ظهر قلب..حتى الأحداث التى لم أعشها، فقد عاشها غيرى، وقد كان هذا كافيًا ليكون مصبّ تجاربهم جميعًا إلى عقلى..فأجدنى قد عشت كل شىء من قبل، رأيت كل شىء من قبل، لا أقدر على الجلوس فى مقعدى ساكنة، أقفز فوق جلد المقعد اللامع باهظ الثمن صارخةً: "أها أنا أعرف هذا..أنا رأيت هذا..أنا فعلت ذاك..يا لكم من مبتدئين"
فينظر لى روّاد السينما فى خليط فريد من الاشمئزاز والشفقة..
من المُضجر أن تراقب صديقك وهو يشاهد فيلمًا أنت تعرف نهايته مسبقًا..تشاهد الخوف يعتلى قسماته حين يُعرَض مشهدٌ لبطل الفيلم وهو يتعلق بغصن شجرة على وشك الإنقصام، ومن تحته هاوية سحيقة لا تبدو لها نهاية..أنت تعرف أن البطل سيعيش وسـ"ينقذ اليوم" وسيحظى بالفتاة، وسيتزوجان على شاطئ من شواطئ الكاريبى، وسيرقصان على أنغام الماريمبا..لكن صديقك لا يعرف كل هذا بعد..كل ما يعرفه الآن هو أن البطل بطةٌ ميتةٌ لا محالة، سينكسر الغصن وسينتهى الأمر..
فتقرر أنت أن تقضى الوقت فى قضم أظافرك غيظًا..والانتظار..

"وقد حسمت الأمر بأن الجحيم هو الشمس بعينها
إذ تحترق للأبد فى مركز الأشياء
كرة تحترق بالنار فى مركز الأشياء
كرة تحترق بالنار فى مركز الأشياء
عقل يحترق بالنار فى مركز الأشياء"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من القطط والبشر.

مُولي.

شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (2)