عهد الأسطورة.
أنا مصابة بداء عدم التذكر.
آه وداء الملل أيضًا..
لم أعد أذكر أكثر لحظاتى أيقونيةً بعد الآن..أوقات مراهقتى التى كان من المفترض بها أن تكون الذكريات الأكثر قوة وعنفوانًا، أن تكون محفوظة فى صناديق ذهبية، طافيةً على السطح..ليست إلا بضعة أوراق فى صناديق خشبية رثة تختبئ على استحياء فى أحد أركان عقلى.
من حين لآخر، تطرق أبواب عقلى -بشكل مفاجئ- ذكرى قديمة من مراهقتى كنت قد نسيتها..تمكنت -بشكل ما- من الفرار من صندوقها الخشبى والإتصال بى بشكل مباشر..فيمزقنى نحوها الشجن والنوستالجيا وكل المشاعر التى قد صرت أمقتها..كل ما يجعلنا -نحن البشر- ضعفاء وهشّين..كل ما يجعلنا بشرًا..
تذكرت اليوم أوقاتى مع صديقتىّ القديمتين فى المدرسة الثانوية..كنا فى الخامسة عشر..أنظر الآن إلى الأمر لأرى أننى لم أكن أفهم بعد كيف تنشأ العلاقة الإنسانية المدعوة "صداقة" كما يجب..لم أكن أفهم الطقوس المجتمعية التى تتوجب على المشاركين فى هذه العلاقة لممارستها بشكل "صحيح"..
كان الأمر بالنسبة لى هو: شخص أشعر معه ببعض الراحة..لدينا بضعة قواسم مشتركة فنستطيع تبادل أطراف الحديث..أشعر نحوه ببعض الحب(؟) ربما..لا يثير السخرية حول عاداتى الغذائية الغريبة..ليس علىّ أن أصطنع وأتظاهر كثيرًا حين أحادثه..
كان ذلك -بالنسبة لى- بمثابة تعريف العلاقة الإنسانية البحتة المدعوة بالصداقة..
كل يوم فى الصباح أثناء الطابور: وأصداء الإذاعة المدرسية تتردد فى الأرجاء، ولفحة من هواء الصباح البارد تضرب وجهى، ومُدرس الموسيقى يلوح لى مرحبًا ممسكًا بقهوته، كنت أتسلل إلى مسرح المدرسة..فأجدهما هناك قد وصلتا قبلى..كان المسرح الفارغ عن بكرة أبيه هو نقطة تلاقينا اليومية فى الصباح..
فى الغالب، كنت أجدهما تتحدثان عن الفتيان..فكنت أبتسم لهما وأهز رأسى يمنة ويسرة فى ملل، فتبتسمان لى فى المقابل فى شىء من الـ"نعم نعم نعرف أننا مراهقتان بشكل مغالى فيه"..
فكنت أتركهما حتى تنتهيا وأخرج رواية ما من حقيبتى وأستغرق فيها..
فى كثير من الأحيان، كنت صدقًا أتمنى لو أشاركهما أحاديثهما عن الفتيان..كنت أتطلع لأن أكون مراهقةً كما يجب..كنت أعرف أننى على قيد المراهقة فى تلك الفترة، لكنى -وكم آسف لهذا- لم أستشعر علامات المراهقة كأترابى جميعًا..لم أستطع لها سبيلًا..لم يبد لى شيئًا واحدًا صادقًا/حقيقيًا منها..
وحين تنهيا حديثهما الشيق عن الجنس الآخر..كانتا تتجهان نحوى، فتختطف (سلمى) الرواية من يدى فى عبث ضاحك، فأصيح فيها أن تحترس من أن تنطبق دفتىّ الرواية على بعضهما فتضيع الصفحة التى وصلت إليها.. وتتفحصها (فيروز) لتخبرنى أننى ولا محالة سأعيرها إياها حين أنتهى منها..
ثم أننا كنا نجلس فنتحدث بشكل عشوائى عن الدراسة..عن هذا الفيلم..عن ذاك الكتاب..
ثم كانتا تتسلقان نافذة المسرح المطلة على فناء المدرسة الواسع حيث يقام الطابور وتصطف طوابير الفصول، وكنت أتبعهما..تتردد أصداء أنشودة وطنية مبتذلة ما، يعزفها فريق المدرسة الموسيقى، فتكون بمثابة خلفية رديئة لأفكارنا..لا زلت أذكر اللحن..
ثم كانتا تسترقان النظر إلى ذلك الفتى الذى يعجب واحدة منهما..أو الحبيب السابق لواحدة منهما..وتتهامسان..
ثم كانتا تداعبانى بشأن ذلك الفتى ال"كيوت" الذى كانتا تصران على أنه يكنّ لى مشاعر ما لكنه يخجل من محادثتى، وقد كانتا محقتين بشأنه فى النهاية..لكنى كنت أزجرهما حينها على أية حال وأسخر منهما كثيرًا..ثم تنجرف دفة الحديث إلى أمر عشوائى آخر..
وربما تظاهرنا أننا ممثلون فى مسرحية ما، فتسدل إحدانا الستار الأحمر ثم تسحبه من جديد معلنةً بداية المسرحية..
هكذا كانت تنقضى أوقاتنا معًا..وهكذا انقضت أعوامى فى المدرسة الثانوية..بين محاولات لاستشعار علامات المراهقة..بين لفافات التبغ الردىء..بين عُثرات الإندماج بين أترابى..بين روايات تولستوى ونجيب محفوظ ومكتبة مصر..بين رائحة الخوخ قبيل الصيف..بين التدوين وكتابة القصص القصيرة..بين الشكوك العقائدية..بين استكشاف جسدى وعقلى على استحياء..بين أمل دنقل وصلاح عبد الصبور..بين سوناتات تشايكوفيسكى وأغنيات بينك فلويد وريديوهيد..بين القبلات الغير مثالية..بين دار الأوبرا والمركز الثقافى للترجمة..بين لوحات جويا..بين تساؤلات عن ماهية الأشياء..وبين غرفة الموسيقى فى المدرسة وعزف مقطوعات تشوبين حتى الإتقان..بالكاد..
آه وداء الملل أيضًا..
لم أعد أذكر أكثر لحظاتى أيقونيةً بعد الآن..أوقات مراهقتى التى كان من المفترض بها أن تكون الذكريات الأكثر قوة وعنفوانًا، أن تكون محفوظة فى صناديق ذهبية، طافيةً على السطح..ليست إلا بضعة أوراق فى صناديق خشبية رثة تختبئ على استحياء فى أحد أركان عقلى.
من حين لآخر، تطرق أبواب عقلى -بشكل مفاجئ- ذكرى قديمة من مراهقتى كنت قد نسيتها..تمكنت -بشكل ما- من الفرار من صندوقها الخشبى والإتصال بى بشكل مباشر..فيمزقنى نحوها الشجن والنوستالجيا وكل المشاعر التى قد صرت أمقتها..كل ما يجعلنا -نحن البشر- ضعفاء وهشّين..كل ما يجعلنا بشرًا..
تذكرت اليوم أوقاتى مع صديقتىّ القديمتين فى المدرسة الثانوية..كنا فى الخامسة عشر..أنظر الآن إلى الأمر لأرى أننى لم أكن أفهم بعد كيف تنشأ العلاقة الإنسانية المدعوة "صداقة" كما يجب..لم أكن أفهم الطقوس المجتمعية التى تتوجب على المشاركين فى هذه العلاقة لممارستها بشكل "صحيح"..
كان الأمر بالنسبة لى هو: شخص أشعر معه ببعض الراحة..لدينا بضعة قواسم مشتركة فنستطيع تبادل أطراف الحديث..أشعر نحوه ببعض الحب(؟) ربما..لا يثير السخرية حول عاداتى الغذائية الغريبة..ليس علىّ أن أصطنع وأتظاهر كثيرًا حين أحادثه..
كان ذلك -بالنسبة لى- بمثابة تعريف العلاقة الإنسانية البحتة المدعوة بالصداقة..
كل يوم فى الصباح أثناء الطابور: وأصداء الإذاعة المدرسية تتردد فى الأرجاء، ولفحة من هواء الصباح البارد تضرب وجهى، ومُدرس الموسيقى يلوح لى مرحبًا ممسكًا بقهوته، كنت أتسلل إلى مسرح المدرسة..فأجدهما هناك قد وصلتا قبلى..كان المسرح الفارغ عن بكرة أبيه هو نقطة تلاقينا اليومية فى الصباح..
فى الغالب، كنت أجدهما تتحدثان عن الفتيان..فكنت أبتسم لهما وأهز رأسى يمنة ويسرة فى ملل، فتبتسمان لى فى المقابل فى شىء من الـ"نعم نعم نعرف أننا مراهقتان بشكل مغالى فيه"..
فكنت أتركهما حتى تنتهيا وأخرج رواية ما من حقيبتى وأستغرق فيها..
فى كثير من الأحيان، كنت صدقًا أتمنى لو أشاركهما أحاديثهما عن الفتيان..كنت أتطلع لأن أكون مراهقةً كما يجب..كنت أعرف أننى على قيد المراهقة فى تلك الفترة، لكنى -وكم آسف لهذا- لم أستشعر علامات المراهقة كأترابى جميعًا..لم أستطع لها سبيلًا..لم يبد لى شيئًا واحدًا صادقًا/حقيقيًا منها..
وحين تنهيا حديثهما الشيق عن الجنس الآخر..كانتا تتجهان نحوى، فتختطف (سلمى) الرواية من يدى فى عبث ضاحك، فأصيح فيها أن تحترس من أن تنطبق دفتىّ الرواية على بعضهما فتضيع الصفحة التى وصلت إليها.. وتتفحصها (فيروز) لتخبرنى أننى ولا محالة سأعيرها إياها حين أنتهى منها..
ثم أننا كنا نجلس فنتحدث بشكل عشوائى عن الدراسة..عن هذا الفيلم..عن ذاك الكتاب..
ثم كانتا تتسلقان نافذة المسرح المطلة على فناء المدرسة الواسع حيث يقام الطابور وتصطف طوابير الفصول، وكنت أتبعهما..تتردد أصداء أنشودة وطنية مبتذلة ما، يعزفها فريق المدرسة الموسيقى، فتكون بمثابة خلفية رديئة لأفكارنا..لا زلت أذكر اللحن..
ثم كانتا تسترقان النظر إلى ذلك الفتى الذى يعجب واحدة منهما..أو الحبيب السابق لواحدة منهما..وتتهامسان..
ثم كانتا تداعبانى بشأن ذلك الفتى ال"كيوت" الذى كانتا تصران على أنه يكنّ لى مشاعر ما لكنه يخجل من محادثتى، وقد كانتا محقتين بشأنه فى النهاية..لكنى كنت أزجرهما حينها على أية حال وأسخر منهما كثيرًا..ثم تنجرف دفة الحديث إلى أمر عشوائى آخر..
وربما تظاهرنا أننا ممثلون فى مسرحية ما، فتسدل إحدانا الستار الأحمر ثم تسحبه من جديد معلنةً بداية المسرحية..
هكذا كانت تنقضى أوقاتنا معًا..وهكذا انقضت أعوامى فى المدرسة الثانوية..بين محاولات لاستشعار علامات المراهقة..بين لفافات التبغ الردىء..بين عُثرات الإندماج بين أترابى..بين روايات تولستوى ونجيب محفوظ ومكتبة مصر..بين رائحة الخوخ قبيل الصيف..بين التدوين وكتابة القصص القصيرة..بين الشكوك العقائدية..بين استكشاف جسدى وعقلى على استحياء..بين أمل دنقل وصلاح عبد الصبور..بين سوناتات تشايكوفيسكى وأغنيات بينك فلويد وريديوهيد..بين القبلات الغير مثالية..بين دار الأوبرا والمركز الثقافى للترجمة..بين لوحات جويا..بين تساؤلات عن ماهية الأشياء..وبين غرفة الموسيقى فى المدرسة وعزف مقطوعات تشوبين حتى الإتقان..بالكاد..
تعليقات
إرسال تعليق