الكهف.

السطور التالية تشمل حديثًا مكتوبًا بينى وبين..آمم..دعونا نطلق عليه "ك"..لأنه يعشق السرية والغموض، تلك الأشياء التى كنا نمارسها فى سن الثالثة عشر، بينما تضع لفافة تبغ ردىء بين شفتيك وتضيق عينيك كثعلب محنك قد خَبَر الدنيا ونال منها ما نال..
ولكن، دعنا من الاستطراد..

***********

ك: أنا أرى كل الجمال فى النهايات..أنتم تحبون أن تكون خاتمة الرواية/الفيلم/المسرحية ملحميةً جديرةً بكونها النهاية الحقّة..تتفننون فى إبراز كلمة (النهاية) التى تظهر على الشاشة وسط السكون..تزخرفونها وتستميتون فى جعلها الأجمل والأحلى مظهرًا..تزينون مشاهد النهايات وتضعون لها الأولوية القصوى..لا آبه إن كان عرضى سيئًا، لأنه لو كانت نهايتى رائعة مبهرة للأنفاس، فإن هذا كل ما يهم وليذهب الباقى حيث ألقت..لذا فكما ترى، فقد كان من الحكمة أن البشر لن يعيشوا للأبد..المجد وكل المجد للموت..

- أتفق إلى حد ما..

ك: فلتتخيل معى، لو صرتم خالدين، أى مصائب ستحلون بها على أرضكم..ستزداد المصائب بعدد الأحياء..

بعضكم سيجنّ من فرط الذكريات..نشاط التذكر نفسه لن يكون ذا معنى بعد الآن..كل لحظة ستمر تستطيع أن تصنع غيرها وغيرها وغيرها..فلديك كل الوقت فى العالم..لم تذهب للقاء حبيبتك فى المطار لدى عودتها من السفر؟ لا مشكلة، ستطلب منها أن تسافر مجددًا على الطائرة التالية وستوافق هى، تعرف أنها ستفعل..وحين تعود هى ستكون أنت هناك فى هذه المرة مع باقة ورود وقنينة نبيذ أحمر وكيس من الشطائر، وستحظى بلحظتك الرومانسية..أفليس لديكما كل الوقت فى العالم؟..لن يكون للساعة الرملية أى معنى رمزى فى عقولكم بعد الآن..

كما سيفقد الحانوتيون مصدر رزقهم، أسيرضيك هذا؟

- لم كان علينا أن نرتبط ذلك الارتباط الوثيق بالمادة؟..لم كان علينا أن نأكل ونشرب ونعشق ونمقت ونتذكر ونمرض ونذبل ونموت ونتحلل إلى عناصرنا الأولية فنساهم فى خصوبة التربة؟..لم كان على هذا أن يحدث منذ البداية؟..

آه ودعنا لا نتحدث عن أننا لا نفقه شيئًا واحدًا عن ماهيتنا..مأساة إغريقية التى صنعتها هذه، أليس كذلك؟

ك *يشعل لفافة تبغ ردىء ويضيق عينيه كثعلب متمرس* : أتعرفين طريقة أفضل لقضاء وقت مسلٍ أكثر من هذه؟

- لم كان علينا أن نعانى منذ البداية؟ لِم لَم تحررنا من المادة فنعيش فى بُعد افتراضى ما؟ بعقولنا أو وُعينا أو أيًا كانت التسمية التى اخترتها للأمر..ألا تظنها فكرة أفضل؟

ك: من دون معاناة فلا حقيقة..كما يقول معشر المبتذلين أنه من دون شر فلا خير..باتمان يحتاج إلى البوكر والبوكر يحتاج إلى باتمان..و..

- يُدعى الجوكر..أما البوكر فهى لعبة مقامرة سخيفة لن تود أن تجربها..

ك: آه معذرةً..كما كنت أقول..تعرفين أطروحة أفلاطون الشهيرة (الكهف)..أنا وضعتكم فى كهف أفلاطون..وضعتكم فى الأصفاد وجعلتكم تواجهون الحائط..الحائط الذى ترتمى عليه الظلال فقط..ترون الظلال وتحيون معها وتخاطبونها..لم تعرفوا شيئًا سوى الظلال طوال حيواتكم القصيرة..لكنها فى النهاية مجرد ظلال..فقط اسقاطات للحقيقة ولكن ليست الحقيقة..هل كانت الحقيقة ستعنى أى شىء لكم من دون وجود اللا-حقيقة؟..ألا ترين المتعة فى الأمر؟ شاعرية ما؟ أعرف أنكم تحبون الشاعرية..لا؟

- فى أطروحة أفلاطون، حين تحرر أحد المصفدين وعاد ليحكى لزملائه عما رآه بالخارج..عن بعض من حقيقة الأشياء..فإن زملاءه لم ينصتوا، ظنوا أن ما بالخارج هو شر محقق قد أفقده صوابه..رفضوا باستماتة التحرر من أصفادهم وأشفقوا على زميلهم الحُر أيما الإشفاق..نحن نخشى ونمقت كل ما هو مجهول، ونعشق كل ما هو مألوف..أن تكتشف أن كل ما تعرفه عن كينونتك هو خدعةٌ "فيزيائية" صغيرة..مجرد ظل لشىء أكبر..كم أن هذا قاسٍ..فلتعلم أننا سنقاتل بشراسة حتى لا يحدث ذلك..سنرغب فى الاحتفاظ بكذبتنا الصغيرة المألوفة إلينا، ألا ترى هذا معى؟

ك: *يصدر صوتًا أشبه بالقهقهة، ثم يصمت*