خمسة وعشرون شيئًا يصب اللافا على رأسه: الثانى.
تستطيع أن تراه..يجلس محدقًا إلى سقف حجرته المرصع بالنجوم البلاستيكية التى تضىء بلون فوسفورى محبب كلما عمّ الظلام..يجلس على حشية فراشه محدقًا إلى السقف، مفكرًا فى أبيه المصاب بالفصام..أسمعك تتساءل من جديد، من هو؟ عمن نتحدث بالضبط؟ أوه، أولم نتفق فى المرة السابقة على تجاهل عنونة الأشياء والأشخاص..ولنتسم ببشريتنا التى تحتم علينا التفتيش عن معاناتنا وسط طيات معاناة الآخرين..ولتبحث عن معاناتك الخاصة فى معاناة صديقنا المأنوف ذكره..
وهذا يحملنا إلى الشىء الثانى على قائمة الخمسة وعشرين شيئًا من تلك الأشياء التى تصب اللافا على أم رأسه:
الشىء الثانى
يخشى أن ينتهى به الأمر مثل أبيه..
أن تتلاطمه الحياة ويستيقظ ذات يوم ليكتشف أن نشاطه الحركى الوحيد قد انحسر فى التمطى إذ يفيق من نومته..أن يصاب بالفصام والخرف ربما..أن يجلس ساعتين محدقًا إلى أرضية حجرته وما يغطيها من بلاط منقوش، يصنع بمخيلته أشكالًا وأشخاصًا من نقوش هذا البلاط، ويحدّثهم فى الليل حين ينام الجميع..أن يمقته الأقربون له، ويلعنه الغرباء إذ يمر حذائهم..أن يصير ضيفًا غير مرغوب به على جروب الواتساب الذى يجمع زملاء دُفعة كليته..أن ينادى أبناءه ليريهم كم أن أم كلثوم رائعة وكم أن صوتها كان قويًا رخيمًا رغم أنهم كانوا يضعون مكبر الصوت بالأعلى على بعد نصف متر من فمها.."ليست مثل مطربى هذه الأيام الرقيعين" هكذا يقول إثر هزّة رأس..أن يصاب نصف وجهه بالشلل فيتهدل حاجبه وركن فمه الأيسر، وتجحظ عينه اليسرى قليلًا عن محجرها..أن تنبت تلك الشعرة البيضاء الطويلة على قمة حاجبه الأيمن..لتصير كالوصمة التى يتركها الموت على زبائنه المُقبلين..حتى يعرف من يراهم أن هؤلاء ملكًا له، ولا لأحد آخر..
مسبب الفكرة: البشر يهابون الموت (داه)..وقد كان هو -من كان- بشريًا، يتبع ناموس البشر كما هو واضح..البشر يهابون الوحدة والظلام..وقد سبق أن قلت لك أن الضوء مرتبط فى أذهاننا بالحياة..أما الظلمة فموثوقة وثاقًا إلى الموت..لذا فنحن نعشق الحياة ونمقت الموت..إن سألتنى: لماذا تكونت هاته العلاقة فى أذهاننا من المقام الأول؟، لماذا ننجذب للضوء كما تنجذب العثة للنيران؟ فسأسألك: ماذا نفعل هنا على هذه الأرض بحق السماء؟
كلا السؤالين عديمىّ الفائدة كما ترى..وما هما إلا إضاعة للأكسجين الثمين إن أردت رأيى..
ما يشعر به على إثر الفكرة: يشعر وكأنه كان يتوقع مصيرًا محددًا كثمرة لحياته على هذه الأرض، فلم ينله..بل نال مصيرًا أسوأ، مظلم كمصير أبيه..ولا يحتاج الأمر لشيرلوك هولمز حتى نعرف أن كل هذا يشعره بخيبة الأمل، وبرغبة مُلحّة فى أن تصدمه قاطرة أسمنت الآن لتنهى له حياته بدلًا من أن يفعلها بنفسه، فقط فلينتهى الأمر..
نحن نسير بخطى ثابتة واثقة نحو قبورنا..كم أن هذا محزن وشاعرىّ..لو كانت له حبيبة لهاتفها الآن ليحدثها عن كل هذا ويتقوت على الميلودرامية التى يشتهيها البشر أجمعون..
نحن نسير بخطى ثابتة واثقة نحو قبورنا..كم أن هذا محزن وشاعرىّ..لو كانت له حبيبة لهاتفها الآن ليحدثها عن كل هذا ويتقوت على الميلودرامية التى يشتهيها البشر أجمعون..
ما يرتكبه على إثر الفكرة: لا شىء..فقط يستلقى على حشية سريره مفكرًا فى أبيه..تُرى، هل سيرثيه يوم يموت؟ أم سيثبت فى فخر أنه قد استطاع التغلب على نواميس البشر البائسة، تلك النواميس التى ترفض الإعتراف بحتمية الموت، على رغم من كونه ظاهرة عالمية لا حصر أو عدد لها؟ هل سيفعل ذلك؟ أم أن دفاعاته الفلسفية الهشّة ستنهار، وسيبكى أباه كأى بشرى يحترم نفسه؟..تاركًا الباب مفتوحًا على مصراعيه من أجل فيض مشاعره البشرية، حتى يلتهمه حيًا عن طيب خاطر..
هو لا يدرى بالتأكيد، لكنه يأمل أملًا حثيثًا فى أن يجد شيئًا من الجواب وسط الخمسة وعشرين شيئًا من تلك الأشياء التى تصب اللافا على رأسه.
تعليقات
إرسال تعليق