يقول الإنسان يومئدٍ أين المفر.

ارتدت حافلةً صغيرة فى طريقى للمنزل اليوم وقت الظهيرة..تلك واحدة من المرات القليلة التى أعود فيها إلى شقتى قبل الحادية عشر مساءً..
وإذ أحدق إلى الفراغ أمامى لا ألوىّ على شىء، صعد فتى صغير لا يتعدى العاشرة، ارتقى درجات الحافلة برويّة حِذر أن يتعثر، وهو يحمل بين يديه قصاصات ورقية من خامة رديئة للغاية، مطبوعة عليها آيات من القرآن..
شرع الصغير يلقى بالقصاصات على حجورنا بشكل روتينىّ عارضًا بضاعته..قصاصة لكل واحد..ابتسمت فى باطنى، فهأنذا أجلس فى حافلة، وتستلقى على ساقىّ قصاصة صغيرة مكتوب عليها "سورة الواقعة"..رماها إلىّ فتى صغير فى ظن بائس منه أننى من الممكن أن أبتاعها..
لكنى ولدهشتى أجد أصابعى تمتد إلى القصاصة الخضراء الصغيرة، ولا أفيق إلا وأنا أتصفحها بين يدىّ، أردد بأنفاس متقطعة الآيات التى اعتدت الترنم بها واستذكارها عن ظهر قلب، والبكاء تأثرًا على إثر تلاوتها..تتحرك عيناى فوق السطور من آية لأخرى..
"إذا وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة، إذا رُجَّت الأرض رجًا، وهُزّت الجبال هزًّا، فكانت هباءً منبثًا"
ولا أخفى عليك فقد أثار ذلك فى نفسى شعورًا من الميلودرامية المحببة والحنين إلى "شىء ما"..شعرت أننى مراهقة من جديد، أبحث عن خلاصى وسط آيات القرآن، وسط تلاوات الشيخ عبد الباسط عبد الصمد.. وسط قصاصات أذكار الصباح والمساء التى كانوا يوزعونها عند كل إشارة مرور، والتى كانوا يؤكدون على أنه "إن قرأتها فلك كل خير الدنيا وما فيها"، وهى عبارة مبهمة مطاطية للغاية إن أردت رأيى.
لم أفق من كل هاته الخواطر إلا حين وجدتنى أبتسم للفتى وأسأله: "بتبيعهم بكام؟"
فنظر لى بوجه محايد متعب وقطرات عرق تنحدر فوق جبهته الصغيرة: "بـ2 جنيه"
مددت يدى فى جيب بنطالى الأسود بحثًا عن بعض الفكّة، فعلت ذلك وأنا أشعر بأننى أستحق جائزة حمقاء العام -لو كانت هنالك جائزة بهذا الاسم-، وأن كل من بالعربة يرمقنى الآن بامتعاض وشكّ..هذه الفتاة؟ تبتاع "كلام ربنا"؟ أى زمن هذا الذى نحن فيه يا رب؟! أهو الزمن الذى تبتاع فيه الفتيات الملحدات قصاصات خُطّت عليها سورة الواقعة على متن حافلات النقل العام؟
دسست ورقة من فئة الخمسة فى يد الفتى الصغير
"معاك فكة؟"
فتح كفه اليسرى ليكشف عن ثلاثة جنيهات معدنية بالضبط، ألقاها فى راحتى، ثم أنه قفز على عجل إلى أسفلت الشارع من جديد..
ثم يحدث أن أتذكر فى سخرية أننى أنزف الدماء فى مثل هذا الوقت من الشهر..وأن قوانين الكيان بالأعلى تقضى بحرمانية لمس أى ورقة تحوى كلماته من قِبَل امرأة تنزف الدماء (حتى تتطهر)..ابتسمت فى تشفٍ وتناولت القصاصة بين يدىّ، ورحت أتلمس ورقها الأخضر الردىء بينما أستنشق أبخرة العوادم وتتطاير خصلات شعرى أمام لحف الهواء الساخن.. 

"فأما إن كان من المُقربين، فروحٌ وريحانٌ وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين، فسلامٌ لك من أصحاب اليمين، وأما إن كان من المُكذّبين الضالين، فنزلٌ من حميم، وتصلية جحيم، إن هذا لهو حق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم"

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من القطط والبشر.

مُولي.

شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (2)