رأسُ الِممحاة.
نحن على متن باخرة فى عرض البحر..تقف روزالين بجانبى على سطح الباخرة فنَرْنو معًا نحو اليابسة التى تقترب شيئًا فشيئًا..هل هذه هى الإسكندرية؟ أم هى البندقية؟ نحن لم ندرس الجغرافيا جيدًا لكن كل شىء يوحى بأن ما نراه الآن هو خليط من مدينتىّ الإسكندرية والبندقية معًا! دعنا نطلق عليها الإسكندقية إذن حتى نجعل الأمور أكثر سلاسة..
أوه أنت لا تفهم، هذه حكايةٌ سرياليةٌ أخرى كما ترى..الأمورُ أبسط وأقل تعقيدًا حين تضعها تحت فئة السريالية..بوسعى أن أقول أنه ثِمة فيل أخضر اللون يرتدى حِلة سهرة ويجلس الآن فى صالون بيتى، ويشيد بفترة حكم العثمانيين لمصر بينما يرشف النبيذ الأحمر..ولكن دعنا من صديقنا جرولزى -هذا ما نحب أن ندعو به ذاك الفيل اللعين- الآن، فإن لهذا قصة أخرى..
ماذا كنا نقول؟
آه نعم، روز تعدّل من وضع غطاء رأسها الذى لا تحبه كثيرًا لكنها ترتديه على أية حال..ترسو بنا الباخرة على شاطئ المدينة: تلك الخليط بين الإسكندرية والبندقية، والتى اصطلحنا على تسميتها بالإسكندقية..
الشوارع مبللة بالندى، والهواء رطب..ثمة مصابيح إنارة من الفلورسنت تسطع بضوء أبيض هنا وهناك..وتستطيع أن تلتقط الطابع الفيكتورى الصارخ لمعمارية البنايات هنا..
تقول روز: "إن أسوأ كوابيسى هى أن أضيع فى مكان كهذا، أن أضل طريقى فى هذا التيه، وأن أكون وحدى.."
تمرق قطة بجوار قدمى، فأجفل وألتفت إلى يسارى حيث اختبأت القطة فى إحدى حاويات القمامة..قبل أن ألتفت مرة أخرى نحو روز، لأخبرها أننى -بدورى- أخشى ذلك كالموت أيضًا، لكنى لا أجدها هناك..
أين ذهبتِ روز؟ لقد كنتِ هنا..لقد كنتِ هنا بالضبط..
"روووز! لماذا تركتِنى؟!"
أراها فى شوارع المدينة..ضائعةً وقد ضلّت طريقها فى هذا التيه، ووحيدة..
ماذا الآن؟ بوسعى أن أهيم فى طرقات هذه المدينة إلى الأبد، لا مشكلة، لا أملك شيئًا أفضل لإمضاء الوقت..
الجميع منشغلٌ بحساب كفاءة الدوائر الكهربية هذه الأيام، يصممون الدوائر ثم يركضون فى دوائر لأيام وأسابيع من أجل أن لا تقل كفاءة دوائرهم -الكهربية- عن نسبة مئوية ما..
ربما لن يستسيغوا كثيرًا استسلامى الكامل لذلك المصير المتمثّل فى الهيام بشوارع إحدى المدن للأبد..ربما سيقترح أحدهم بينما يرشف القهوة ويبتلع أقراص الصداع: "أوه أوه أعرف..ربما عليكِ إمضاء الأبدية فى صنع دائرة لا تقل كفاءتها عن الستين بالمئة!"
وسأَعِده أننى سأفعل حتمًا "حالما أصل لمنزلى"..سأقطع وعودًا خالصةً بأننى سأفعل..فيصدّقنى ويومئ برأسه مشجعًا..
لا أدرى لِمَ أتذكر هذا الآن بالذات..
أنا الآن أستكمل الهيام فى شوارع تلك المدينة، لا يبدو أن روزًا ستظهر فى أى وقت قريب، فقط أتمنى أن تكون أفضل حالًا مما أنا عليه أينما كانت..
تلوح فى الأفق بنايةٌ تبدو كفندق صغير..سوف أمضى الليلة ها هنا..
أصعد الدرج الخشبى النخر، وأدلف إلى غرفة صغيرة ذات سرير واحد..الأرضية من خشب الباركيه القديم، والحوائط تحتاج إلى بعض الترميم..لكن لا بأس..سوف أمضى الليلة هنا..وفى الصباح سوف أستكمل ما بدأته اليوم..أما الآن فسأضطجع على السرير وأُصلى من أجل بعض النعاس..
الأرضية الخشبية تصرّ تحت وطء أقدام عديدة..وكأن طابورًا يسير بالقرب من حجرتى ويقترب بخطوات مسرعة..ينفتح باب الحجرة لأرى أناسًا سبابة كل منهم تخرج من رأسه عبر أنفه وتشير إلى سقف الغرفة، يسيرون فى طابور..عيونهم زجاجية تمامًا، كأسماك نافقة..كان هناك نحو عشرة منهم، وقد بدأوا يطوّقون الغرفة ويسيرون فى دوائر..
أراقبهم من سريرى وأفكر فى صديقى الذى رأى أناسًا بمثل هذا الوصف فى واحد من أحلامه..هأنذا أراهم أمامى رؤى العين..لا أستطيع الانتظار حتى أهاتفه فأخبره بأن قطعةً من أحلامه قد زارت غرفتى بالفندق..
انتظر لحظة! لست بحاجة إلى أن أهاتفه، فلقد تمعّنت النظر فى وجوههم لأراه هناك بينهم..هذا هو وجهه..ذاك هو صديقى..يدور بخطى سريعة فى دائرتهم، سبابته تخرج من رأسه عبر أنفه، عيناه متسعتان، وزجاجيتان، وميتتان..وقد كان يردد أغنيتهم:
"لم ينته الأمر بعد..لم ينته الأمر بعد".
أوه أنت لا تفهم، هذه حكايةٌ سرياليةٌ أخرى كما ترى..الأمورُ أبسط وأقل تعقيدًا حين تضعها تحت فئة السريالية..بوسعى أن أقول أنه ثِمة فيل أخضر اللون يرتدى حِلة سهرة ويجلس الآن فى صالون بيتى، ويشيد بفترة حكم العثمانيين لمصر بينما يرشف النبيذ الأحمر..ولكن دعنا من صديقنا جرولزى -هذا ما نحب أن ندعو به ذاك الفيل اللعين- الآن، فإن لهذا قصة أخرى..
ماذا كنا نقول؟
آه نعم، روز تعدّل من وضع غطاء رأسها الذى لا تحبه كثيرًا لكنها ترتديه على أية حال..ترسو بنا الباخرة على شاطئ المدينة: تلك الخليط بين الإسكندرية والبندقية، والتى اصطلحنا على تسميتها بالإسكندقية..
الشوارع مبللة بالندى، والهواء رطب..ثمة مصابيح إنارة من الفلورسنت تسطع بضوء أبيض هنا وهناك..وتستطيع أن تلتقط الطابع الفيكتورى الصارخ لمعمارية البنايات هنا..
تقول روز: "إن أسوأ كوابيسى هى أن أضيع فى مكان كهذا، أن أضل طريقى فى هذا التيه، وأن أكون وحدى.."
تمرق قطة بجوار قدمى، فأجفل وألتفت إلى يسارى حيث اختبأت القطة فى إحدى حاويات القمامة..قبل أن ألتفت مرة أخرى نحو روز، لأخبرها أننى -بدورى- أخشى ذلك كالموت أيضًا، لكنى لا أجدها هناك..
أين ذهبتِ روز؟ لقد كنتِ هنا..لقد كنتِ هنا بالضبط..
"روووز! لماذا تركتِنى؟!"
أراها فى شوارع المدينة..ضائعةً وقد ضلّت طريقها فى هذا التيه، ووحيدة..
ماذا الآن؟ بوسعى أن أهيم فى طرقات هذه المدينة إلى الأبد، لا مشكلة، لا أملك شيئًا أفضل لإمضاء الوقت..
الجميع منشغلٌ بحساب كفاءة الدوائر الكهربية هذه الأيام، يصممون الدوائر ثم يركضون فى دوائر لأيام وأسابيع من أجل أن لا تقل كفاءة دوائرهم -الكهربية- عن نسبة مئوية ما..
ربما لن يستسيغوا كثيرًا استسلامى الكامل لذلك المصير المتمثّل فى الهيام بشوارع إحدى المدن للأبد..ربما سيقترح أحدهم بينما يرشف القهوة ويبتلع أقراص الصداع: "أوه أوه أعرف..ربما عليكِ إمضاء الأبدية فى صنع دائرة لا تقل كفاءتها عن الستين بالمئة!"
وسأَعِده أننى سأفعل حتمًا "حالما أصل لمنزلى"..سأقطع وعودًا خالصةً بأننى سأفعل..فيصدّقنى ويومئ برأسه مشجعًا..
* * * * * * * *
أخبرنى صديقى ذات يوم -قبل أن أبدأ هيامى بمدينة الإسكندقية- أنه رأى فى الحلم ذات مرة أُناسًا يضعون سباباتهم فى ثقب من ثقبىّ أنوفهم، فتخرج -سباباتهم- من رؤوسهم فى وضع فيزيائى مستحيل بعض الشىء..ويسيرون فى طابور على هذا الوضع: سبابة كل منهم تخرج من رأسه عبر أنفه وتشير إلى السماء، يرددون جميعًا: "لم ينته الأمر بعد"..يسيرون بخطوات مسرعة ويرددون أنشودتهم: "لم ينته الأمر بعد..لم ينته الأمر بعد"..عيونهم متسعة وزجاجية تمامًا، كأسماك نافقة..وسيماء الجدية تظهر على وجوههم من دون داعٍ..لا أدرى لِمَ أتذكر هذا الآن بالذات..
أنا الآن أستكمل الهيام فى شوارع تلك المدينة، لا يبدو أن روزًا ستظهر فى أى وقت قريب، فقط أتمنى أن تكون أفضل حالًا مما أنا عليه أينما كانت..
تلوح فى الأفق بنايةٌ تبدو كفندق صغير..سوف أمضى الليلة ها هنا..
أصعد الدرج الخشبى النخر، وأدلف إلى غرفة صغيرة ذات سرير واحد..الأرضية من خشب الباركيه القديم، والحوائط تحتاج إلى بعض الترميم..لكن لا بأس..سوف أمضى الليلة هنا..وفى الصباح سوف أستكمل ما بدأته اليوم..أما الآن فسأضطجع على السرير وأُصلى من أجل بعض النعاس..
الأرضية الخشبية تصرّ تحت وطء أقدام عديدة..وكأن طابورًا يسير بالقرب من حجرتى ويقترب بخطوات مسرعة..ينفتح باب الحجرة لأرى أناسًا سبابة كل منهم تخرج من رأسه عبر أنفه وتشير إلى سقف الغرفة، يسيرون فى طابور..عيونهم زجاجية تمامًا، كأسماك نافقة..كان هناك نحو عشرة منهم، وقد بدأوا يطوّقون الغرفة ويسيرون فى دوائر..
أراقبهم من سريرى وأفكر فى صديقى الذى رأى أناسًا بمثل هذا الوصف فى واحد من أحلامه..هأنذا أراهم أمامى رؤى العين..لا أستطيع الانتظار حتى أهاتفه فأخبره بأن قطعةً من أحلامه قد زارت غرفتى بالفندق..
انتظر لحظة! لست بحاجة إلى أن أهاتفه، فلقد تمعّنت النظر فى وجوههم لأراه هناك بينهم..هذا هو وجهه..ذاك هو صديقى..يدور بخطى سريعة فى دائرتهم، سبابته تخرج من رأسه عبر أنفه، عيناه متسعتان، وزجاجيتان، وميتتان..وقد كان يردد أغنيتهم:
"لم ينته الأمر بعد..لم ينته الأمر بعد".
تعليقات
إرسال تعليق