فليبارك الرب جنود البحرية الموتى.

تطفو على سطح ذاكرتى قصيرة المدى أحداث وقعت فى مثل هذا الوقت من العام الماضى..لا أدرى لِمَ أتذكرها الآن بالذات: وأنا أصنع بعض الحليب بالشيكولاتة فى المطبخ، لكن ذاكرتى قد صارت كارثية مؤخرًا كمريضة ADHD تحترم نفسها: تتذكر ما يحلو لها، وتقذف بما يحلو لها إلى سلة المهملات والspam..
آه نعم..دعنا من الاستطراد..كنت أقول أننى تذكرت تلك الفترة من العام الماضى، حين بدأ عضو رئيسى من أعضاء جسدى يعلن اضرابه عن العمل، فيتزمت ويثور على أوامرى أنا صاحبة هذا الجسد: قلبى..
صار نشاط بسيط كصعود طابق واحد من أى بناية لهو تحدٍ مفزع جدير فقط بأبطال الأساطير الإغريقية..فصرت ألهث وأتحامل على أى شىء صالح للتحامل عليه بجانبى..كالدرابزين أو كصديق تَعِس الحظ يتصادف أن يكون صاعدًا الدرج معى..
ثم بدأ الأمر يتخذ منحىً جديدًا، فصار قلبى يثور ثائرته بدون أن أحرك ساكنًا حتى..أكون جالسة فى مقعدى أقرأ أو أشاهد فيلمًا، وإذا بقلبى يعلن ثورته ورغبته فى الخلاص منى، حتى وإن كان التخلص منى يعنى انتهاء وجوده هو أيضًا..فيصير يدق بمعدل جنونى..وتبدأ تلك البقعة السوداء فى الزحف ببطءٍ على مجال رؤيتى..تثقل رأسى وتسقط أطرافى على جانبىّ جسدى بلا حياة..
لا أدرى متى قررت عرض نفسى على الأطباء بالضبط..لكنى فعلت على أية حال..أخذتنى أمى وعرجنا على ذاك الطبيب، والذى أخبرنى أنه علىّ اجراء "سونار" على قلبى..كما علىّ اجراء فحصٍ بالرنين المغناطيسى -ذاك الذى يستلقى فيه المريض على محفة، والتى بدورها تدلف به إلى ما أشبه بنفق صغير-  
لكن الحدث الذى دفعنى إلى تذكر كل هذا بالذات؛ هو حين ذهبت لإجراء السونار القلبى..وذلك الطبيب المتعجرف الذى أجراه لى..كان ملتحيًا تتوسط جبهته زبيبة صلاة -كما يسمونها- كريهة المنظر..ومن خبراتى السابقة فإن مَن يختارون لأنفسهم أن يظهروا بهذا المظهر، فإنهم فى الغالب سيمنحوننى وقتًا سيئًا من أوقات حياتى، وسيجثمون على صدرى كالجاثوم بوجودهم الثقيل..لكنى لم أشأ تكوين صداقات مع الرجل على أية حال، ما هو إلا طبيب، سيجرى فحصًا لى وسيتقاضى أجرًا وانتهينا..
أخبرتنى الممرضة أن أستلقى وأن أكشف عن صدرى..أصابتنى الفكرة بالإعياء فى البداية، سأكون ممددة على طاولة أمام بعض الغرباء، بجذع عارٍ تمامًا، وقلب ضعيف..كيف يتأتّى لوضع أن يكون أكثر هشاشة من ذاك الوضع؟..لطالمة ارتبط العرىّ فى أذهاننا بالهشاشة..أوجدنا علاقة طردية بين العريّ والهشاشة..كلما كشفت عن جزء آخر من جسدك -وبالأخص لو كان جزءًا مما يعتبره البشر "عَورة"- فكلما ازدادت هشاشتك وتقوضت أساساتك..
لكنى أذعنت على أية حال..وحاولت قدر استطاعتى أن يكون الأمر casual واعتياديًا إلى أقصى حدٍ ممكن..أعنى أنه لأمر سخيف أن أظن أنهم يهتمون لعرىّ أحد من مرضاهم..أعنى، فلنتخيل كم مريض يأتى إلى هنا كل يوم لإجراء السونار..وكم واحد منهم يكشف عن صدره ويستلقى عارىَ الجذع على الطاولة، هشًا أمامهم..ساعدنى هذا فى ادراك مدى سخافتى حين شعرت بعدم الارتياح فى البداية..كم أنا سخيفة لأظن أننى متميزةٌ بأى شكل عن كل المرضى الذين يأتون إلى هنا كل يوم..أنا ورقة أخرى فى كومة الأوراق على مكتب الطبيب..أنا اسم آخر فى السجل المدنى..علىّ إذن أن أسترخى وأدعهم يقومون بعملهم..
ساعدتنى أمى فى رفع قميصى الرمادى المُخطط قصير الأكمام، ثم حمالة الصدر الخانقة -ذاك الاختراع البشرى الأخرق الذى أمقته حتى الموت وأُعدّه آلة تعذيب من العصور الوسطى، بل ولا أرى له هدفًا واضحًا إلا اصابتى بإسفكسيا الغرق-..ثم استلقيت فى هدوء على الطاولة وحاولت أن أسترخى..
جاء الطبيب الذى لم أستلطفه كثيرًا..فأخذ يطرح علىّ أسئلة عشوائية لكسر جليد الصمت، كـ" فى سنة كام بقى؟" وما إلى ذلك من سخافة لابد منها وقد اضطررت لابتلاعها فى هدوء..
وضع الرجل بعضًا من سائل ثقيل القوام كالـچــيل على الموضع حيث يكمن قلبى..ثم أمسك بأداة تشبه المايكروفون وأخذ يمر بها فوق ذلك الموضع فى حركات دائرية..فظهرت على الشاشة السوداء بجانب رأسى صورة مقطعية لقلبى..
كان الرجل يتجنب النظر إلىّ طوال الوقت..وقد ظننت هذا مفهومًا، نظرًا لما لقنتنى إياه الحياة عن أولئك الأشخاص الذين يختارون لأنفسهم الظهور بهذا المظهر الذى أنفت ذكره، لقنتنى أنهم يكونون كارهين للنساء بشكل مضحك..كل شىء يتعلق بالإناث فهو ملوّث جالب للعار ويجب إخفاؤه حالًا، الآن، فى التوّ..وإلا قامت الدنيا ولم تقعد، وأصابتنا الأوبئة وعاد الطاعون يضرب البلاد وأمطرت السماء ضفادع نافقةًً ودماءً..
ولم أستسغ كثيرًا ذلك الشعور المقيت الذى أعطانى إياه ذلك الرجل، بأننى شىء بشع لا يُستَحَب النظر إليه، بل يجب إشاحة النظر عنه كُليًا..وأنه -يا للأسف- مضطرٌ للتعامل معى ومع جسدى الجالب للعار والكوارث بحُكم وظيفته..
فبدأت أتصبب عرقًا فى عدم ارتياح، بينما أشعر بيدىّ الرجل تزحف على جلدى كأطراف مُشعِرة لعنكبوت آسيوى سام..وبدأت أشعر ببعض المهانة إثر ذلك الوضع، وإثر تلك النظرة التى ينظر بها أمثال ذلك الرجل إلىّ..أن يتم اختزالى -بكل أحداث حياتى من مسرات ومآسٍ، بكل هواياتى وكل الأفكار التى تعتمل برأسى كالذباب، بكل مزحاتى الداخلية، بكل فيلم أعجبنى وكل سقطاتى بالدراجة، وبكل ما مررت به وكل ما سأمر به- إلى شىء بشع لا يجب ارتكاب خطيئة النظر إليه..وتمنيت أن ينتهى الفحص الآن لأعود من حيث جئت..
لكنه لم يشأ أن يعطينى ذلك الترف بعد..بل قرر أن يزيد الأمر سوءًا، فبدأ يتحدث إلى أمى: "هى مالها شبه الولاد كده ليه؟ سايباها كده ليه يا مدام ههههه"
فتقطّب أمى وتعطيه ابتسامة باردة..وأقول أنا فى تهكم: "هاى، أنا قاعدة هنا على فكرة"
كان هو ذلك الوقت من العام حين قصصت كل شعرى وصففته فيما يشبه الـ"آلا جارسون"..
شعرت بالكثير من الإهانة على أية حال، وبالأخص لأننى فى وضع هشّ أيما الهشاشة بالمفهوم البشرىّ، عارية الجذع على طاولة، بقلب مريض وجبهة تتصبب عرقًا..لم أكن فى الوضع الأمثل للدفاع عن نفسى أو توجيه اللكمات المعنوية للرجل، أو الظهور بمظهر يتحلى بأى من القوة أو العلوية..فتمنيت أن يخرس وينهى عمله فى صمت..
لكن الرجل لم يكتف بهذا، بل أنه يوجه دفة الحديث إلىّ: "ليه عاملة فى نفسك كده يا ماما؟ وأمك سايباكى ازاى كده هههه"
فيندفع الدم إلى رأسى التى هززتها فى عدم فهم، وقلت فى مزيد من التهكم الهادئ: "يعنى ايه سايبانى؟ كل واحد حر فى شكله على ما أعتقد" 
فيعطينى المزيد من الـ"ههههه"، قبل أن يعلن انتهاءه من الفحص..فتنفست الصعداء وقد بدأ الأدرينالين ينسحب من عروقى فتنتابنى رعشة خفيفة فى ساقىّ، فتصيران إلى ما يشبه عيدان المعكرونة المسلوقة..
أعيد حمالة الصدر الخانقة والقميص إلى وضعهما السابق، فأشعر بشىء من القوة يعود إلىّ من جديد، تمنحنى إياه الملابس، وحين أنظر إلىّ الآن بعد مرور عام، فإننى أشعر بكل السخافة وخيبة الأمل من نفسى، إذ انسقت وراء المعتقد البشرى البحت الذى يقضى بوجود علاقة طردية لا شك فيها بين الضعف والهشاشة وبين العُرىّ..
أما ما أراه مناسبًا الآن، فهو أن لا تشعر بأى شىء إزاء جسدك..لا فخر، لا عار..هو جسدك، لم تختر البقاء فيه، عليك حمله والتعامل معه طوال الفترة المتبقية من حياتك..هو جلد ولحم وعظام وبصيلات شعر..لا شىء يدعو للفخر جراء تغطيته بقطع القماش ولا شىء يدعو للعار جراء عُريّه..لا شىء يدعو للفخر جراء عريّه..ولا شىء يدعو للعار جراء تغطيته بقطع القماش..فقط هو هناك وعليك أن تتعامل مع وجوده وأن تحمله عبر الحياة..
على أية حال، أخبرنى الرجل وهو يتفحص نتائج الأشعة على الشاشة السوداء أننى مصابة بتضخم فى شريان الأورطى أو شىء كهذا..كما أن هناك عيب وراثى ما وُلدت به فى أوردة قلبى، مما يجعل القيام بأى مجهود -ناهيك عن التنفس- أمرًا عسيرًا..
ألقمنى بتلك الكلمات فى عدم اكتراث وفى شىء من القسوة واللا-مِهَنية..لكنى تناولت نتائج الأشعة على أية حال توطئةً لأن أعرضها على طبيبى فى الغد..واصطحبت أمى خارجتين من الغرفة المظلمة، بينما أبتسم وقد تخلصت من الوجود الثقيل لذلك الرجل بالداخل..كان الأمر أشبه بالطعم الكريه الذى تخلّفه بقايا القهوة فى قاع الفنجان فى فمك، فيتحتم عليك تناول شيء حلو لتبديد تلك النكهة المقيتة..
فى طريقى للمنزل فى الميكروباص، بدأ شىء من القلق يتسرب إلى نفسى..إلى أى مدى ستسوء حالة قلبى -إن لم تكن قد ساءت بالفعل-؟..ما كنه هذا التضخم الذى تحدث عنه الرجل؟..هل سيعلن قلبى يومًا ضجره من ضخ الدماء إلى جسدى فيتوقف؟..أخذت أقرأ يومها عن حالة تضخم القلب وتبعاتها..وكان جلّ ما قرأت غير مبشّر بالمرة..
اذكر أننى عدت إلى المنزل حينها لأغلق باب غرفتى وأبكى..أبكى من السخرية التى تكتنف كل شىء..لم أر الموت أبدًا -وقتها- ولم أفكر به قط منذ زمن طويل..فإذا به يدق أبواب مخيلتى من جديد..وتراءى لى أنه لو كان هناك إله ما، فإنه -لابد- ينظر إلىّ الآن ويضحك ملء فمه -لو كان يملك واحدًا- مُتشفيًا..بينما يضيف بعض الحسنات إلى ميزان ذلك الطبيب الكريه، إذ أنه غضّ بصره عن ذلك الوجود البشع خاصتى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من القطط والبشر.

مُولي.

شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (2)