أشياء تحدث لأشخاص.

 مرّ عيد ميلاد أبي هذا العام مر الكرام، أردت أن أكتب شيئًا في هذا اليوم، كنوع من -تعرف- تكريم ذكراه؟ هذا هو عيد ميلاده الثاني في القبر، لكان في الثالثة والسبعين الآن.

على أية حال، بالأمس مررت ببعض الحوادث المثيرة لتقلص الوجه، مثلًا الأوفيس بوي في الشركة سألني وهو يتناول مني النقود مقابل كيس رقائق البطاطا: "هل أنتِ هادئة هكذا دومًا؟ أراهن أنكِ صاخبة جدًا في المنزل هاها." آه فقط تناول النقود يا رجل، لِم علينا تبادل أطراف الحديث كأننا نهتم بشكل عميق لأمر بعضنا البعض؟ ابتسمت له على أية حال وقلت كاذبة: "هاهاها لا، أنا هكذا دومًا." لم أشأ بالطبع أن أقول إنني فقط لا أستلطف الجميع كثيرًا هنا وأن جلّ ما أرغب فيه هو أن أُترك وشأني. فقال شيئًا جديرًا برجل مثله أن يقوله (أوه لا تنظر إليّ هكذا، أحيانًا تكون آراء الناس واضحة على وجوههم، أنا لا أطلق أحكامًا فارغة هنا): "كويس كويس، هو المفروض البنات تبقى كده أصلًا، مش زي اليومين دول تلاقي صوتها أد كده واصل للشارع هاهاهاها." لم أقدر (ولم أرغب في) مقاومة ذلك التقلص في عضلات وجهي وتركته يظهر للعيان، ودارت عيناي في محجريهما بشكل لا إرادي على طريقة: "آه ها نحن ذا مع فضلات الثيران هذه مجددًا." ولم أجد شيئًا أرد به غير إيماءة "متقلصة" برأسي (إذا كان للإيماءة أن تكون متقلصة)، لكنه لم يتوقف عند هذا الحد وقال: "انتي كده تمام خليكي كده بقى." وكالمعاقة الاجتماعية التي أكونها، ابتسمت قائلة: "شكرًا!".. شكرًا؟ الرجل يرى فيكِ صورة نمطية مضحكة للفتاة الصالحة المنكمشة على نفسها وأنتِ تشكرينه وتبتسمين.. همممم.

كان يومًا عاديًا في الشركة، انتهى الدوام وركبت باص السيدة زينب الذي يمر بالتحرير لأقابل يوهانس في مقهى زهرة البستان. نزلت في ميدان عبد المنعم رياض، ورحت أبحث في الأكشاك المجاورة عن كروت شحن لهاتفي، وجدت كشك الزهور ذاك، وملصقة على الزجاج كانت لافتة مكتوب عليها: "توجد كروت شحن"، يا لهدية السماء.

دخلت الكشك لأجد امرأة تجلس على مكتب خشبي وسط الزهور والدمى المحشوة، أول شيء خطر في ذهني عنها أنها لابد وأنها مسيحية، مسيحية جدًا إن كان لي أن أقول هذا، شعرها سافر غزاه الشيب، وترتدي تنورة سوداء تكشف عن كاحليها وجزء من ساقيها. لا أحب القفز إلى الاستنتاجات بخصوص الغرباء، لكن.. أعني.. أحيانًا نقابل أشخاصًا يمثلون المادة الخام من الصور النمطية، تعرف؟ أنا مثلًا، صورة نمطية للفتاة ذات الشعر الثائر الناقمة على الجميع، وتطلق الكثير من السباب بلا داعٍ، أنا لا أدخن بشكل منتظم، لكن لو كنت أفعل لكنت قد صنعت مثالًا ممتازًا لهذه الصورة النمطية. على أية حال ابتسمت للمرأة في شيء من الاستلطاف، لا أدري لماذا، لكني أشعر بنوع من الحميمية تجاه المسيحيين في مصر، ربما لأن كلينا أقلية؟ أو ربما لأنهم يفتقرون إلى تلك النظرة الاستعلائية لدى المسلمين، تلك النظرة التي تقول: "ستحترقين في النار لسنوات بعدد شعور رأسك." تعرف ما أعنيه؟ لا أعرف، أحيانًا فقط أشعر أن المسيحيين أكثر لطفًا، يشعرونني بدفء بشري من نوع ما. 

على أية حال، عرجت على الموقف، ورحت أبحث عن أتوبيسات تمر بباب اللوق، لم أجد إلا أتوبيسات تغطيها طبقة كثيفة جدًا من التراب إلى درجة أن لونها قد حال إلى الزيتوني الرمادي، وقام أحدهم بمسح طبقة التراب من على جزء صغير من أحد الأتوبيسات ليكشف عن الرقم الخاص به.

استسلمت في النهاية وقمت بطلب أوبر، وجدت أنه سيتقاضى عشرين جنيهًا، وهو ليس سيئًا أبدًا. وصلت إلى المقهى لأجد يوهانس ينتظرني هناك جالسًا إلى إحدى الطاولات. طلبنا قهوة تركية لي وينسونًا له. وجلسنا نقرأ واحدة من قصصي القصيرة، تلك بعنوان "لا أدرى (3)"، قمت بقراءتها على مسامعه وهو يأكل شطيرة الشاورما التي ابتاعها من القزّاز، وبالطبع قمت بترجمتها إلى الإنجليزية من أجله. قال إنها تذكره بقصص إدجار آلان بو، وهو ما سرّني كثيرًا. قرأ لي واحدة من قصصه أيضًا، مكتوبة بالهولندية بالطبع، وقد قام بترجمتها إلى الإنجليزية من أجلي بدوره. كانت القصة تدور في غزّة، تتحدث عن صياد سمك يعيش مع ابنتيه وزوجته، ويحب أن يحكي لابنتيه قصص سندباد من وقت لآخر، وفي أحد الأيام كانت ابنته الكبرى تساعده على المركب، وجاء موج عالٍ ورياح دفعت بابنته من على سطح المركب لتختفي في عمق البحر. استقبلت الأسرة العزاء في المنزل، وأخبر الصياد ابنته الصغرى أن شقيقتها قد ذهبت إلى البحر في مغامرة مع سندباد، وأنهما لا يقدران على العودة لأن سندباد لا يمكنه التواجد على اليابسة. بعد ذلك، صار الصياد يمقت البحر حتى الموت، توقف عن الصيد وكادت أسرته تتضور جوعًا لولا مساعدات جيرانهم. في النهاية، نرى مشهدًا للابنة الصغرى تجلس أمام الشاطئ وتحكي لأترابها قصصًا لمغامرات سندباد مع شقيقتها، وكان الأطفال منهمكين في الحكايات لدرجة أنهم لم يشعروا بتلك القذيفة التي سقطت وقتلتهم جميعًا على الفور قبل حتى أن يدركوا ذلك. أما الصياد وزوجته، فلم ينطقوا بكلمة بعدما عرفوا بالخبر، فقط صعدا إلى المركب، وتوغلوا عميقًا في البحر، ولم يحاول أحد إيقافهم.. ولم يعد الصياد يمقت البحر لأنه أخذ ابنته، فالبحر يأخذ ويعطي، لكن الحرب تأخذ فقط. 

بعد ما يقرب من نصف ساعة، انضم إلينا صديقنا الإسباني أبيل، وراحا يخبراني عن كيف أنهم يفتحون القبور القديمة ويخرجون منها الجماجم والعظام ويكدسونها فوق بعضها في بعض الأماكن في أوروبا، ليفسحوا أماكن ليضعوا فيها الجثث الجديدة. كما أخبراني عن تلك الفرقة البلجيكية التي تقوم بالعزف في المقابر فقط. 

أنهينا اليوم في مقهى الحرية مع بضعة زجاجات من البيرة الرخيصة ذات المذاق الشبيه بالبول، ثم استقلّ يوهانس أتوبيس الهرم معي، ونزل عند الجامعة، ومن هناك سيأخذ أوبر إلى الزمالك، حيث الشقة التي يشاركها مع أبيل وكارمن وبتول. "من هؤلاء؟" تتساءل؟ كما يقولون، هذه حكاية أخرى لوقت آخر. لقد بدأت أصابعي تؤلمني من الكتابة، ولا أدري لِم أخبرك بكل هذا على أية حال.

حسنٌ، وداعًا للآن.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من القطط والبشر.

مُولي.

شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (2)