لا أدري. (4)
لم تهضم خلايا دماغي بعد حقيقة موت أبي، أدرك هذا كل يوم. أعني.. تأتيني تلك اللحظات التي يتوجب عليّ فيها أن أردد: "إنه ميت.. لقد مات.. إنه ميت" بصوت عالٍ، حتى أتمكن من تصديق أن ذلك قد حدث بالفعل. لا زال عقلي يعيش في عالم لم يمت فيه أبي. أراه في نومي كل يوم تقريبًا، حي يُرزق، ويجد عقلي ثغرة ما يستعملها ليفسر بقائه على قيد الحياة. فمثلًا رأيت في مرة أننا تمكنا من إنقاذه في آخر لحظة قبل موته بالإنعاش القلبي، ومرة أخرى رأيت أننا قمنا بدفنه بالخطأ، وأنه كان فقط فاقدًا للوعي ونحن -كالحمقى- ظننا أنه مات، ونسمع طرقات على الباب ونفتح لنجده هناك، شعره أشعث وممتلئ بالغبار والتراب، ويخبرنا أننا حمقى وأننا ظنناه مات، وأن التربي سمعه يطرق على سقف القبر لحسن الحظ، فأزاح الرخام وأخرجه من هناك. في مرات أخرى، أراه شابًا في الثلاثين من عمره، ومرات أخرى أراه في الثالثة والسبعين من عمره (وذلك مستحيل لأنه مات في الواحدة والسبعين)، وفي مرة رأيت أننا عرفنا سلفًا أنه سيموت بعد عدة أيام، فظللت أبكي كثيرًا، وظل هو يخبرني أنه لا بأس، لا داعي للحزن، لقد حان وقتي. رأيت أيضًا ذات مرة أنه مات وعاد للعالم المادي في صورة شبح شفاف، يستطيع اختراق الجدران والحديث معنا. وفي مرة أخرى رأيت أنه مات في سريره، لكننا لم نقم بدفنه، وأبقيناه هكذا على السرير، وكأنه نائم. رأيت أيضًا نفس الحلم السابق بطريقة أخرى، إذ رأيت أننا نعيش في عالم حيث الموت لا يعني أن يصمت الشخص للأبد، بل معناه أن تقل حركتك ويقل كلامك وتقل رغبتك في الطعام والشراب، تقل كل أنشطتك الحيوية تدريجيًا، حتى تموت موتًا فعليًا، ولسخرية القدر، فإن هذا بالضبط ما حدث مع أبي بالفعل، الفرق بين الحلم والواقع هو أننا في الأخير لم نكن ندري أنه يحتضر. قل كلامه شيئًا فشيئًا، لم يعد يطلق النكات أو يحاول إضحاك أمي بلا طائل، لم يعد يتناول الكثير من الطعام، كف عن تناول الأدوية، صار ينام طوال النهار وجزءًا من الليل، صارت أنفاسه ثقيلة.
في مارس الماضي، عندما توفي عمي هشام، ذهبنا إلى منزله بعد أيام من الوفاة لزيارة زوجته وابنته، روت لنا زوجة عمي قصة احتضار عمي الذي استمر لشهر كامل. دُفن عمي إلى جانب أبي وزوج عمتي، قالت زوجة عمي مقتبسة من كلام ابن عمي لها عما رآه في القبر أثناء الدفن: "عمو أنور.. عمو فهمي.. بابا"، وهو ترتيب الأجساد الموجودة في القبر. زوج عمتي أنور، ثم أبي، ثم عمي هشام، قالت ذلك وهي تلوح بيدها في الهواء كما لو أن هناك قبر غير مرئي أمامها، وهي تشير إلى ترتيب الأجساد بداخله.
كان هذا أول شيء أسمعه عن أبي في هيئته الجديدة، هيئة الجسد المتحلل. كان عقلي يجد صعوبة دومًا في تصديق أن جسده يتحلل الآن في التربة مع كل ثانية تمر، لكن كلام ابن عمي هذا لا يترك مجالًا للشك في حقيقة التحلل، إذ أنه أخبر زوجة عمي أنه لا يقدر على البوح بما هو أكثر عما رآه "تحت"، أو كما أخبرتنا: "اللي شفته تحت ده أنا مش هاقدر أتكلم عنه، ماتسألينيش يا ماما عشان مش هاقدر أجاوب"، ولا يعني ذلك إلا شيئًا واحدًا فقط، أنه رأى أجسادًا متحللة، وجوهًا متآكلة، أو شيئًا صادمًا قريبًا من ذلك، لا يقدر على الحديث عنه حتى.
لا أدري.. سيظل الموت أبدًا ساحرًا ومروعًا في الوقت ذاته بالنسبة لي.
تعليقات
إرسال تعليق