لأنه رجل لطيف طيب (ولا أحد ينكر ذلك).

 "آه يا أبناء الملاعين، يا شياطين الأرض!"

هكذا يبدأ السيد خوري صباحه كل يوم، بالصراخ بصوت عالٍ وسب كل من ليس على هواه، وهم كثر إن أردت رأيي. كان السيد خوري رجلًا خمسينيًا كريهًا منفرًا، بلحيته الرمادية الكثيفة وملامحه الغليظة. على الرغم من ذلك، تبدو في ملامحه بقايا وسامة عربية قديمة إن كان لي أن أعترف بذلك. كان رجلًا مرتابًا، لا معارف له ولا أصدقاء، اللهم من أخيه الأصغر الذي كان يزوره من الحين للآخر.

كان السيد خوري يدين بنسخة مثيرة للإهتمام من الإسلام. تعرفون أن هناك عدة نسخ من كل ديانة ولدت في هذا العالم، أجرؤ على القول إنهم نسخ لا نهائية، أو فلنقل أنهم بعدد أفراد هذا الكوكب من باب عدم المبالغة هاها. وكأي مسلم يدين بهذه النسخة المضحكة من تلك الديانة الحديثة نسبيًا، فإن السيد خوري كان يكره النساء والملحدين كراهية عمياء، يمقتهم حتى الموت، ويصرخ في صباح كل يوم داعيًا عليهم بالخراب، وبأن يغرقوا في بحر من الحمم السائلة حتى تذوب عظامهم. وقد كان يعيش في الطابق الأرضي للبناية التي أسكن بها، بداخل متجر البقالة خاصته. كان يضع كاميرا للمراقبة فوق باب متجره، ويجلس كل ظهيرة يراقب المارة ويطلق الأحكام.  وقد كان السيد خوري هو وسيلة التسلية الوحيدة لسكان الحي، بقدر ما كان أحمق القرية وسيلة التسلية لسكان قرى شرق أوربا، فقد كان يملك ميكروفونًا لاسلكيًا، يستخدمه كل صباح ليصرخ فيه من داخل متجره، تكاد ترى اللعاب يتطاير من بين شدقيه إذ هو يصرخ عن كيف أن الإلحاد هو وباء هذا العصر، وكيف أن النساء جميعهن عاهرات، كلهن عاهرات وبنات عاهرات، برؤوسهن المكشوفة وبناطيلهن الجينز الضيقة. وقد كنت أحيانًا ما أصرخ فيه من نافذة شقتي في الدور الثالث: "بس يا خول"، لكنه لم يكن يسمعني على أية حال. 

في ذلك اليوم، اقتربت امرأة -يبدو عليها أنها ليست من هذه الأنحاء- من متجره، يبدو أنها أرادت شراء بعض البقالة لا أكثر. طرقت باب البقالة الزجاجي، وأشارت للسيد خوري محيية. لم أتوقع أن يفتح لها الباب، لكنه -لدهشتي- فعل. وحالما انفتح الباب وخطت المرأة خطوتين إلى الداخل، حتى ركلها السيد خوري ركلة قاسية في معدتها جعلتها تتقهقر إلى الخلف وإلى خارج المتجر، وتقع على أسفلت الشارع. ثم عاد إلى داخل متجره وصفق الباب خلفه، ولم ينس أن يصرخ "عاهرة" ويبصق على الأرض. لم تفهم المرأة أي شياطين أصابت ذلك الرجل وجعلته يركلها هكذا، لكن المارة لم يحركوا ساكنًا على أية حال، فما من امرأة عاقلة قد تفكر في عبور ذلك الباب الزجاجي.

تكررت تلك الحادثة عدة مرات، نساء من أحياء مجاورة لم يسبق لهن أن سمعن بالسيد خوري، يطرقن الباب، وحالما يخطين خطوة إلى الداخل، حتى يتلقين ركلة تدفعهن إلى الخارج. تكررت الحادثة كثيرًا حتى بدأ الناس يتكلمون، بدأوا يسأمون ذلك الرجل الكريه، وسرعان ما بدأ المارة يقذفون بعلب العصير البلاستيكية والخضراوات الفاسدة والكعك على نافذة وباب متجره، وعلى وجهه أيضًا كلما سنحت لهم الفرصة وخرج السيد خوري من متجره. 

وفي صباح أحد الأيام الصيفية، كنت أقف في شرفة شقتي، أراقب الشارع بحثًا عن شيء مثير للاهتمام، فرأيت رجلًا ذا رأس لامع خالٍ من الشعر، يرتدي بذلة سوداء ويحمل حقيبة يد، وقد بدا وكأنه ينتظر شيئًا ما، يقف في ترقب بجوار متجر السيد خوري. ثم رأيت السيد خوري يصل إلى متجره، يبدو أنه قضى الليلة بالخارج عند شقيقه، يفتح الباب الزجاجي ويدلف إلى الداخل وهو يتمتم بشيء ما، ثم يصفق الباب خلفه. وحالما فعل ذلك، حتى رأيت الرجل ذا البذلة السوداء وهو يخرج من حقيبته قفلًا حديديًا عملاقًا لم أر في حجمه من قبل، ومتمهلًا وكأن أمامه كل الوقت في العالم، أسدل الستار الحديدي أمام باب المتجر الزجاجي، ثم وضع عليه القفل العملاق وأحكم غلقه، فعل كل ذلك وهو يصفر لحن أغنية "لأنه رجل لطيف طيب ولا أحد ينكر ذلك".

أنهى الرجل الأصلع مهمته، ثم حمل حقيبته وسار مبتعدًا في خطوات متباطئة. لم تكد تمر بضعة دقائق حتى سمعنا صراخ السيد خوري من داخل المتجر، لاعنًا الجميع هذه المرة، ليس الملحدين والنساء فقط، لم يستثن أحدًا.

"يا وقود جهنم! ستحترقون للأبد على فعلتكم هذه! افتحوا الباب يا ملاعين!"

لكن أحدًا لم يعر صراخ السيد خوري اهتمامًا، كان هناك اتفاق غير ضمني بأن على ذلك الرجل أن يختفي من الوجود، لقد حان الوقت لذلك. 

مر يومان وتحول الصراخ إلى توسلات واعتذارات.

"سأتبرع بكل أموالي للمجلس القومي للمرأة.. لن أترك قمامتي أمام باب شقة جاري اللا ديني بعد الآن. فقط أخرجوني من هنا!"

لكن أحدًا بعد لم يعر كل ذلك اهتمامًا، كنا فقط ننتظر اليوم الذي يتوقف فيه أي صوت قادم من داخل ذلك المتجر.

زاد الصراخ حدة في الأيام التالية، وعاد السيد خوري لعادته في صب اللعنات على الجميع مجددًا، يبدو أنه قد أدرك أنه لن يخرج من هنا أبدًا، وأن توسلاته بلا جدوى.

"سأموت جوعًا يا أبناء القحبة!"

في الأيام التالية، تحول الصراخ إلى أنين، سرعان ما خفت تدريجيًا، حتى غاب عن الوجود تمامًا.


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من القطط والبشر.

مُولي.

شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (2)