أوقاتٌ طيبةٌ للغاية مع الأدهد.

"جعلتنى أم آية أقسم لها أن أصلى لآية اليوم، وأن أجعلكم جميعًا تصلون من أجلها، فلديها اختبار"
تقولها أمى موجهةً الحديث لى ولشقيقتى التى تجلس فى المقعد المقابل، فترد شقيقتى فى تضرع -من فورها- قائلةً: "يا رب"
بينما أطرق أنا برأسى وأبتسم وأتمنى لهم الحظ بطريقة: شور،جوود لاك ويذ ذات.
وعلى إثر ذلك، يفيض رأسى بذكريات لكل المرات التى تضرعت فيها إلى الكيان المجهول فى السماء عسى أن يتحقق ما أردت..
ولعل الذكرى الأكثر تأثيرًا وثبوتًا بين جنبات عقلى، هى تلك الفترة من حياتى القصيرة، حين كنت فى عامىّ الثانى عشر من أعوامى على هذه الأرض..أصبت بدستةٍ من الاضطرابات النفسية وإختلالٍ غذائى ما من تلك الاضطرابات والإختلالات الكثيرة التى تصيب البشر فى مراحل البلوغ..أستطيع الآن تشخيص حالتى هذا وأنا فى العشرين من عمرى، لكن ذلك الترف لم يتوفر لى وقتها وقد كنت طفلةً غرّة فى الثانية عشر..
عانيت وقتها من البوليميا، ولا زلت أعانى منها على فترات متباعدة حتى الآن..لكن الأمر وقتها كان سيئًا للغاية..وحتى الآن فلا أدرى -حقيقةً- كيف نجوت من مسبب موت لا بأس به كهذا..
أتذكرنى حين كنت أعود من المدرسة وقت صلاة العصر، فأرتدى ذلك الزى الخانق الذى تطلق عليه النساء فى هذه البقاع اسم "الإسدال"، كان الإسدال طويلًا يغطى قدمىّ ويجعلنى أتعثر حين أدوس على أطرافه فى كل خطوة أخطوها..كانت رائحته خانقة تذكرنى بعبق متجر رخيص ما..وكان مصنوعًا من القطن، أسود اللون وعليه نمط من أنماط النقوش العشوائية التى تعج بها أزياء النساء ها هنا..
كما كنت أقول، كنت أرتدى ذلك الزى الخانق، وبعدها أقوم فأفرد ذلك السجاد الناعم المنقوشة عليه رسوم ساذجة لمساجد أو أنماط نقوش فاطمية، أفرده على الأرض بحذر، وأقف محاولةً ألا أتعثر فى أطراف الثوب مرة أخرى، أبدأ فى طقوس الصلاة محاولةً أن أشعر بأى علامات تؤكد لى اتصالى مع الكيان بالأعلى، أن يؤكد لى حضوره، كان الأمر يجلب لى سلامًا نفسيًا لا بأس به ولا شك..
وحين كنت أخُرّ ساجدةً "أمامه"، فقد كنت أتضرع إلى الكيان بكل ما أوتيت من بلاغةٍ كلامية فى ذلك الوقت، بكل ما امتلكت من عزمٍ حينها، أتوسل إليه أن يستخدم قواه التى لا تضاهى أى شىء رأيته من قبل فى أن يوقّف نموى البشرى..أن يجعل عملية بلوغى تتوقف عند هذا الحد..أن تتوقف الدماء التى كانت قد بدأت تزورنى كل شهر أرضىّ عن المجىء..أن أظل طفلةً للأبد..أن يتوقف نهدىّ عن البروز عند هذا الحد..أن أظل قصيرةً فلا يزداد طولى عن هذا..أن يظل جسدى مفرودًا لا تعيقه تلك البروز المؤلمة كلما عدوت أو جددت فى السير..أن يستبدل تلك البروز بعضلات كبيرة، حتى أشبّ قويةً وأتسلق الهيمالايا حين أكبر كما كنت أتمنى فى سن الثامنة..أو أنضم لصفوف المقاتلين لأقاتل شيئًا ما، ربما لأشعر بالتفوق والعلوية، وأخرج لسانى للفتيان الذين سخروا منى يومًا..انظروا،أنا على قمة السلسلة الغذائية الآن يا حمقى..من يضحك الآن؟
أواظب على الأمر كل يوم، أؤدى الصلوات بانتظام وأنظم الدعوات التى سألقيها على مسامع الكيان بالأعلى اليوم..أرفقها بكثير من الألقاب كـالـ"سميع" والـ"قادر" والـ"قيوم"، أمتدحه وأداهنه..فقد كنت قد قرأت ذات مرة أن الكيان بالأعلى يحب أن يُنادى بأسمائه، فأتخيله راضٍ عنى وقد ناديته بما يحب، ولسان حالى يقول: فها أنا قد ناديتك بما تحب، أفلا تعطينى قليلًا مما أحب، وهو غير بعيد على من يملك ما تملك؟
لم يكن يقطعنى شىء عن تلك الدعوات غير بكائى اليومى أثناء السجود، وقبل النوم ورأسى مستلقيةً على الوسادة..فكنت أستجمع شتات نفسى فى السجود متجاهلة تلك الغصّة فى حلقى وصداع الرأس، وأستكمل دعواتى، مصدرةً أنينًا خافتًا فيما يسمونه بالـ"نهنهة"، سرعان ما أتحكم فيه وأتمالك نفسى وأجبرها على الكفّ عنه، فمن أظن نفسى حتى أصنع كل تلك الجلبة فى حضرته؟ صحيح؟
اختبرت كل شىء معه، الدعوات شفاهيةً وكتابيةً، نعم، فقد كتبت له رسالة فى ورقة صغيرة، ثنيتها على بعضها البعض أكثر من عشر ثنيات منطبقة..وأخفيتها فى أجندتى القديمة التى تعود للعام 2007..اكتشفتها أمى لاحقًا بعد عامين، ووبختنى كثيرًا على تلك الدعوات التى من شأنها إبقاء جسدى طفلًا إلى الأبد.
عافيت الطعام لعل جسدى يتوقف عن النمو،وبدأت فى ممارسة تمارين رياضية عنيفة لعل جسدى يشبّ قويًا وتختفى البروز المزعجة، وكنت أفكر بينما أفعل كل هذا: من يدرى؟، ربما يحاول الكيان مساعدتى، ومعافاتى للطعام وممارستى للتمارين الرياضية العنيفة لن تفعلا أكثر من أنهما ستسرّعان من مفعول مساعداته -والتى بالتأكيد قادمةً فى الطريق بلا شك-..
صرت آكل التوست والبسكويت والفاكهة وبعض الشيكولاته واللبن، وأشرب العصير..
مرّ شهر، وجاء موعد زيارة الدماء، حبست أنفاسى لأيام متتالية، حتى انتهى الشهر ولم تأتنى، فلم أتمالك نفسى من السعادة وإقامة صلوات الشكر، وزادت دعواتى جنونًا وإصرارًا شيئًا فشيئًا..
وكنت قد قرأت أن بإمكان الدماء ألا تزورك لشهرين متتاليين، أما إذا وصل الأمر لثلاثة شهور خالية من الدماء، فعليك أن تعرج على الطبيب فورًا..
ولم أفهم أبدًا حينها، كيف يكون توقف زيارات الدماء شيئًا سيئًا ونذير شؤم ومرض بالنسبة لآخرين..أعنى..من يحب أمرًا كهذا؟
مر شهر آخر، وشهر آخر، مرت ثلاثة أشهر نظيفة خالية من الدماء..فقدت الكثير من الوزن وأصبت بالأنيميا، تصلبت عضلاتى، لكن لا بأس لا بأس..لقد كان لى ما أردت.
أخذت شهيقًا طويلًا بعدما حبست أنفاسى طيلة ثلاثة أشهر، أنتظر الزيارة الدموية لتأتينى عنوةً، حتى أمزق ذلك الإسدال الخانق وألقى كتابه من النافذة، فيصب علىّ جام غضبه ويحيلنى إلى قرد، أو أو أو..لا أدرى..كائن بذراعىّ كلب وحوافر ماعز أو شىء كهذا..وستبكينى أمى كثيرًا وتلومنى كل يوم على ما أجرمت..ستصيح فى وجه القرد خاصتى كثيرًا وستبكينى مزيدًا وستربت على الزغب فوق ظهرى، لكنى -ومن الآن فصاعدًا- لن أفهم أبدًا ما تقول..وسأقعى بجانبها على السجاد ألوّح بذيلى فى سعادة، أراقب تلك الصور المتحركة الملونة التى تُعرض فى ذلك الصندوق الأسود الغريب وقت الظهيرة..وأنتظر الوجبة التالية فى ترقب.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من القطط والبشر.

مُولي.

شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (2)