في أحد تلك الأيام. (3)

 الخميس، السادس عشر من ديسمبر.

أقف على شارع الهرم عند المحولات أطلق السباب واللعنات بصوت خفيض وأنا أقرأ تلك الرسالة على هاتفي: "للأسف اتحركنا من المحولات خلاص". لقد فاتني باص الشركة للمرة.. الخامسة؟ أخبرتهم أنني سألحق بهم عند سينما رادوبيس. أحشر نفسي في سيارة الأجرة بالنفر تلك، يبدو السائق في أوائل الستينات من عمره أو شيء كهذا، لم أكن جيدة أبدًا في تقدير أعمار الناس. يبدي استياءه من إغلاق شارع الهرم، ويبدو أنه كان يعيش تحت صخرة كل هذا الوقت، لأنه يقول إنه لم يعرف بأن شارع الهرم مغلق حتى اليوم، "ده بقاله كده شهر ولا حاجة يا حاج"، يقول أحد الركاب. يفتح الرجل المذياع، تأتينا أصوات يتخللها التشويش الاستاتيكي، يتنقل بين القنوات حتى يصل لواحدة تذيع أغنية إنجليزية رديئة بصوت فتاة يذكرك ببريتني سبيرز في عصر ما قبل 2008، ولابد أنه فكر في نفسه: "هممم هذا مثالي".

أصل للشركة في الثامنة إلا عشر دقائق، أبدأ على الفور في ترجمة كتاب علم النفس للصف الثالث الثانوي إلى الإنجليزية، الكتاب مكتوب بلغة رديئة بدائية للغاية، ويموج بأخطاء أسلوبية ولغوية تبعث على الضحك. أستمع إلى ليزت وفيفالدي وأنا أعمل، ثم تباغتني نوبة فزع تأتي من اللا مكان، أشعر بضيق تنفس وكأنني لا أنتمي لجسدي، كأن شخصًا ما قد زج بي في هذا الجسد، وأن هذا الجسد ضيق كثيرًا عليّ ولا يناسب مقاسي، ولهذا أختنق وأحاول جاهدة الخروج. 

أتحدث عن الأمر كما لو أنني أؤمن بثنائية الروح والجسد، وأنه ثمة وجود غير مادي من نوع ما يحوي الوعي الخاص بي ويختنق بداخل جسدي، كقدم شخص مصاب بداء الفيل في حذاء أطفال.

في الرابعة عصرًا أغلق الكمبيوتر خاصتي وأجدّ السير نحو الباص المتجه للهرم. أقرأ قليلًا من رواية وجيه غالي الوحيدة التي كتبها في الستينات: "بيرة في نادي البلياردو"، قبل أن يقتل نفسه. 

يرن هاتفي، إنها شقيقتي، أرد لأجد صوتها على الناحية الأخرى يقول: "ألو، أيوه يا فندم، بنكلم حضرتك من 208 شارع الهرم"، طريقة مسرحية للغاية لتعلن لي أنها عندنا في المنزل الآن. 

ينزلني الباص على شارع الهرم قريبًا من فندق الأهرامات الثلاثة، أسير حتى أصل لماكينة الصراف الآلي تلك، تقول الماكينة إنه قد تبقى لي ستمائة جنيهًا في رصيدي، أسحب ثلاثمائة، أظن هذا كافيًا. أسير إلى البيت، وليونارد كوهين يغني على هامش الفيلم القصير الذي أتخيل أنه حياتي:

"لم يكن من الصعب عليّ أن أحبك..

أنا لم أحاول حتى..

ضممتك إليّ لبعض الوقت..

ماي أوه ماي أوه ماي.."

أحيي شقيقتي وزوجها، وأتناول الغداء في البيت على عجل، تخبرني شقيقتي أنها حضّرت لي زيًا لأرتديه، لكني أتجاهل السترة والبنطال الموضوعين على الكرسي كبضاعة معروضة في محل، وأرتدي سترة باللون الأخضر الداكن فوق ملابسي، ثم أهرول إلى باب الشقة في السادسة والنصف وأنا أتمتم: "سيفوتني نصف الفيلم لا محالة".

أستقل أتوبيس مواصلات مصر المتجه للتحرير، نصل للميدان في تمام السابعة، لأبدأ في الهرولة من جديد أملًا في اللحاق بحفلة الساعة السابعة في سينما زاوية. أطلب سيارة أجرة من أوبر، السائق يلف ويدور ويلف ويدور بطريقة كارتونية أمامي على الخريطة، حتى لتبدو السيارة كذيل سحلية مقطوع يتلوى في جميع الاتجاهات. أسبّ الجميع وكل شيء موجود بصوت خفيض، ثم أسبّ السائق الذي كنت قد بدأت أشير له بـ "يا كسمك". يصل السائق أخيرًا بعد عشر دقائق قضيتها في صب اللعنات المهينة للنساء أكثر منها للسائق. 

أقول: "مساء الخير."

فيقول: "رايحين فين؟"

أخبره: "باب اللوق كده، سينما زاوية."

يقول في تأفف: "كيف هذا؟ لا أريد الذهاب في هذا الاتجاه.. المفروض إني حددت وجهة مشاويري عشان تكون جنب بيتي، عشان أنا مروّح، كده أنا هابعد عن البيت"

أهز رأسي وأقول بابتسامة صفراء: "طب.. طب يعني أعمل ايه دلوقتي؟"

"خلاص خلاص مش بعد ما ركبتي هانزّلك"

يا للوقاحة.. لماذا قبلت طلب الرحلة من المقام الأول إذن يا شاطر؟

يقول: "بس بصي بقى أنا مش باشوف في البتاع ده -مشيرًا إلى هاتفه- في الضلمة.. خدي شوفي انتي الطريق وقوليلي أمشي ازاي."

لم يقدر عقلي على استيعاب هذا الكم من الوقاحة بعد تلك اللحظة. بصوت غليظ حانق على الجميع، بدأت أرشده في الطريق على أية حال.

وصلت للسينما في السابعة وأربعين دقيقة، وقفت عند شباك التذاكر لأبتاع تذكرة.

"واحدة west side story لو سمحت"

يخبرني الفتى على الشباك أن الوقت قد تأخر جدًا، وأن الفيلم قد بدأ منذ الأبد.

"ممنوع نبيع تذاكر بعد ما الفيلم يبدأ بربع ساعة"

أقف هناك في صمت لدقيقة، أحاول إبعاد عقلي عن التفكير في أن هناك قوة كونية خفية تريد تعكير مزاجي اليوم بالذات، لأن القوى الكونية لديها أشياء أفضل لتفعلها بالتأكيد. أنتظر أن يخبرني أنه سيقوم بعمل استثناء لحالتي فقط ويبيعني تذكرة.. أقول الكثير من الكلام عن أصدقائي الذين ينتظرونني بالداخل، حتى يرضخ في النهاية ويناولني التذكرة في يدي.

أكاد أصل للقاعة فقط لأجد ندى وياسمين تنتظراني أمام الباب، يبدو عليّ الحنق فتسألاني ما بي، فأخبرهما -بصوت طفل غاضب أخذ منه الكبار مصاصته- عن السائق الوقح والتذكرة وكل ذلك، فتقول ندى: "لا عليكِ، الفيلم جميل فيه رقص وأغاني وحاجات، تعالي ادخلي بس".

ندلف ثلاثتنا إلى قاعة (كريم 2)، تمسك ياسمين بعلبة الفشار وتجلس بيني وندى، تشرح لي سريعًا ما حدث في نصف الساعة التي فاتتني من الفيلم. 

ويست سايد ستوري هو musical، فيلم موسيقي إن صح القول، من إخراج سبيلبيرج، وهو نسخة حديثة من فيلم بنفس الاسم من إنتاج 1961، وككل الأفلام التي تنتمي إلى هذا التصنيف، فهو ممتلئ بالكليشيهات، لكنها كليشيهات مقبولة ومستحسنة بشكل ما، فهكذا تكون الـmusical الجيدة، وإلا فلا.. يعني.. البطلة ملونة بورتوريكية، والبطل أبيض بولندي، كلاهما يعيش في الولايات المتحدة في حقبة الستينات، كليشيه روميو وجولييت المعتاد وقد أعيد سرده ونُثرت عليه بعض البهارج والرقصات المبهرة. يتقابل البطلان في حفل راقص وراء كواليس قاعة الرقص، ثم يبدآن في الرقص معًا على الفور، تقول الفتاة ماريا: "يا إلهي، أنت طويل القامة"، فيقول توني: "هاها نعم، وأنتِ لستِ كذلك".. ثم بعد أقل من دقيقة، تندفع ماريا إلى الأمام وتقوم بتقبيله، فيجفل توني، فتسأله: "ماذا؟ آسفة! هل كان هذا غير مناسب؟"، فيخبرها: "لا لا، كل ما في الأمر أن.. لقد فاجئتني.. جربيني مرة أخرى"، ثم يرتفع صوت الموسيقى وتتسارع، وتتلاصق شفتاهما، وعلينا ببساطة أن نتقبل حقيقة أنهما تقابلا منذ دقيقتين، وها هما يقبلان بعضهما بشكل عرضي. ظللنا -أنا وياسمين- نردد الكثير من "يا دين أمي" في المشاهد الرومانسية المبتذلة، حتى تغيرت نكهة الفيلم قرب النهاية، حيث قتل شقيق ماريا أفضل أصدقاء توني، ولذلك قتله توني.. ثم ذهب لماريا بعد فعلته هذه، ليخبرها أنه سيسلم نفسه، ولكنه أراد أن يراها قبل أن يفعل، فتضربه بقبضة يدها في صدره، وتخبره أنه قاتل حقير، ثم تنسى كل هذا بعد دقيقتين وتبدأ في تقبيله، ثم يمارسان الحب على سريرها (نعم، بالتأكيد، فحقيقة قتله لشقيقها لا تهم إلى هذا الحد، لابد أن قتل الأشقاء مثير جنسيًا بشكل ما)، وفي الصباح تتوسل إليه لئلا يذهب للشرطة، وأن يختبئ حتى تهدأ الأمور..

 في النهاية يموت توني على أية حال على يد عشيق ماريا السابق الذي أعمته الرغبة في الثأر، وبالطبع تبكي ماريا قليلًا، وتغني قليلًا عن النفوس الشريرة، والكراهية العمياء، والبراءة المفقودة.. ثم.. النهاية. خرجت من القاعة وأنا أردد في حسرة: "كل ما أردته هو فيلم مبتذل بنهاية سعيدة.. i just wanted a feel-good movie".

نمر بجانب مقهى اسمه The Jungle، يبدو أن تصميمه الداخلي مستوحى من الأحراش أو شيء كهذا، وبجانبه محل قهوة صغير تصدح منه موسيقى بينك فلويد.. نقرر أن كوبًا من الشيكولاتة الساخنة في ذا چانجل هذا لن يضر أحدًا، وهكذا نتحلق حول طاولة خشبية بداخل المقهى، وتخبرنا ندى عن شقة وسط البلد التي ستستأجرها في آخر ديسمبر لتعيش بها مع ثلاث فتيات أخريات، كم هو رائع أن ذلك يتزامن مع إيجادي لشقة في مدينة نصر بالقرب من مكان عملي، سننتقل من بيوت عائلاتنا في نفس الوقت..

يأتي النادل الوسيم بالمشروبات، فأمسك بأكياس السكر وأفرغها من دون تفكير في الكوب الخاص بي، كيس بعد كيس بعد كيس، ويتضح لي فيما بعد، حين أتذوق الفظاعة التي ساهمت في صنعها، أن المشروب كان معسولًا بالفعل، وكل ما فعلته هو أنني جعلت منه غير صالح للاستهلاك الآدمي.

و.. نعم.. فقط بعض من أشياء حدثت في أحد تلك الأيام.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من القطط والبشر.

مُولي.

شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (2)