رِحلتى إلى هيدز.



***********
لطالما حمل المسدس رمزيةً ما فى عقلى..ليست رمزيةً حتمية كالموت مثلًا، كالحرب، كالقتال..ليست رمزية من تلك التى يتحدثون عنها فى صالونات كل أربعاء فى نوادى الفلسفة..

حين كنت فى الخامسة، كان المسدس الوحيد الذى عرفته يومًا هو مسدس أبى؛ الضابط السابق فى الجيش. وقد كان دومًا يصرّ على تسميته بالـ"طبنجة"، فكنت أعانده قائلةً أن هذا مسدس ولا شىء غير المسدس.

 كان المسدس ضيفًا دائمًا فى المنزل، فى الشارع، فى الزيارات العائلية، فى السيارة حينما كان أبى يأخذنى إلى المدرسة، كان ضيفًا ثقيلًا على أمى وخفيفًا رائعًا مثيرًا للخيال بالنسبة للطفلة التى كنتها.

كان أبى والمسدس أخين متلازمين دومًا..وفى أوقات ما بعد الظهيرة، كان أبى ينادينى لأشاهده إذ يُلمّع المعدن الأسود بالزيت، وينظّم صناديق الرصاص..كان يتركنى أحيانًا لأضع الذخيرة بنفسى من دون علم أمى..فقط كان يكتفى بنهيى عن ضغط الزناد.
الرصاصات الباردة ذات اللون النحاسى، والمعدن الأسود اللامع، والأدرينالين يفور فى جسدى، والشعور بالتمرد وخرق القوانين، كان كل هذا يسحرنى، أنا فوق كل شىء، فوق القواعد التى وضعتها لى أمى ذاتها. أداة الموت هذه فى بيتنا، مثل تلك التى أراها فى الأفلام، هئنذا أحمل واحدةً فى يدى، أفهم أسرارها وميكانيزم عملها، لا أقل شيئًا عن لارا كروفت وباتمان.

يومًا بعد يوم صرت أتوق شوقًا لأرى أبى وهو ينفّذ حكم الموت على أحدهم بواسطة "الطبنجة"..فصرت أسأله كل يوم فى السيارة: "أتظننا سنقابل لصًا اليوم؟ أتظن أحدهم سيسطو على منزلنا اليوم؟ إن حدث هذا، فهلا تركتنى أنا لأضغط الزناد؟"

فى سن الثامنة، كنت أنتظر حتى يأوى كل من فى البيت إلى الفراش، فأتسلل على أطراف أصابعى لغرفة أبى، والذى كان يغطّ غطًّا فى النوم، فأتأمل الشىء الأسود اللامع فى مكمنه بدرج الكومود..أتحسسه، أضع مئات السيناريوهات البطولية لى وأنا أنقذ عائلتى من اللصوص، أخلّص مدرستى من غزو الجنود الإسرائيليين ببضعة رصاصات، أحارب على الجبهة الشرقية مثل أولئك الجنود فى نشرات أخبار القناة التاسعة.

فى سن الثالثة عشر، أحضر لى أبى بندقية صيد، ظنًا منه بأن هذا هو ما يجب على أولاد وبنات الجيل الجديد امتلاكه، بدلًا من "أدوات التكنولوجيا اللعينة"على حد قوله. وتستطيع أن تتخيل هذا، طفلة فى الصف الثانى الإعدادى، لم تكن قد امتلكت هاتفها الخاص بعد مثل أترابها فى المدرسة، لكنها امتلكت بندقية صيد لا بأس بها. لم أكن أملك أى شىء لأتفاخر به أمام الفتيات الأخريات ذوات الهواتف باهظة الثمن، وقد كنت أرثى لنفسى وقتها كثيرًا من أجل هذا.

على أية حال، لم أرغب يومًا فى اصطياد أى شىء فى الحقيقة، فكنت أكتفى بالتصويب على أهداف وهمية فى باحة منزلنا الأمامية، تحت أنظار صاحب مطعم المشويات المتوجسة -أنظاره لا المشويات- من تلك الطفلة النحيلة التى تقف وحدها تصوب رصاصات الخرطوش على الأحجار.

فى سن العشرين وفى الصيف الماضى، وضعت مسدس أبى على صدغى للمرة الأولى..لم أعد أصوب على أهداف وهمية كما فى مراهقتى، لسخرية القدر صرت أنا الأهداف، على قدر ما يبدو ذلك مضحكًا..

حدث ذلك فى الفترة الوجيزة التى كنت أسكن فيها الشقة وحدى مع شقيقى الأصغر..أصيب أبى بسكتة دماغية أودت بقدرته على الحركة وأودعته إحدى مستشفيات المعادى، أما أمى فقد كانت تلازمه هناك.

لا أدرى ما أصابنى وقتها، لكنى كنت عازمةً على الموت فى ذلك الصيف. نظرت إلى سنواتى العشرين وشعرت بأن هذا كافٍ، كانت رحلة ممتعة يا رفاق، وقد آن لها أن تنتهى مثل كل شىء، فقط رصاصة واحدة صغيرة تمزق بعض الخلايا وتنثر بعض الدماء، ومن ثم ننتهى من كل هذه الضجة.

كنت وحيدةً جدًا وقتها، أو ربما تعمدت أن أكون وحيدة، فأنأيت نفسى عن معارفى..أمضيت وقتًا لا بأس به من كل يوم أناظر عقلى لأقنعه بأن السير فى شارع المكتبة وحدك هو أمر ممتع، أن اختلاس لفافة تبغ وحدك لهو شىء رائع، أن ابتياع القهوة ذات القوام الأسمنتى -والطعم الأسمنتى كذلك- وحدك لهو أمر محمود.

بعد أيام من سوء التغذية، السير فى الشوارع وتنشّق العوادم، والتساؤل عن أى شىء حلّ بى بحق السماء، عقدت العزم فى تلك الليلة من الصيف الماضى على فعلها.
 سوف نقطع شريط الفيلم ها هنا..هذا فيلم ردىء لا يستحق ثمن التذكرة..والأفلام الرديئة تُحرَق بكراتها فى أقبية دور السينما..الكل يعرف ذلك.

حين أخرجت المسدس من مكمنه، كنت عازمة كل العزم على فعلها. حسنًا هذه هى النهاية، ألديكِ كلمات أخيرة؟ لا شىء؟ لا شىء مميز يدفع أحدهم إلى أن يكتب فى موتك قصيدة كـكلمات سبارتاكوس الأخيرة؟ لستِ من هواة الخلود بعد الموت؟ حسنًا إلى العمل إذن. 

تراءت لى صورةً لأخى حين يستيقظ -إن لم يكن قد استيقظ من صوت اطلاق النار- ليجد جسدى ممددًا على بلاط الحجرة، وثمة ثقب قبيح فى جبهتى تنز منه الدماء، والتى ستكون حتمًا قد تجلطت على مدار الليل، والسجاد الذى تحبه أمى مبللًا بالدماء..
ربما لن يكتشف غيابى إلا ليلًا، ربما سيمارس يومه بشكل طبيعى، فيستيقظ ويصنع لنفسه فطورًا، أو يذهب ليبتاع بعض شطائر الفول، يخوض فى ألعاب الفيديو، يقرأ المجلات..وحين يوغل الليل من دون أن يسمع حرفًا منى، ربما حينها فقط سيذهب ليتفقد حجرات المنزل..تمنيت لو أنه لا يفعل ذلك مطلقًا، وألا يكون عليه أن يرانى هكذا، تمنيت أن تنمحى ذكرياتنا المشتركة معًا بموتى..وكأننى لم أكن..تمنيت ألا أترك خلفى شيئًا ماديًا بيولوجيًا على الأحياء أن يتعاملوا معه ويفزعوا منه، كجسدى الميت على بلاط الغرفة البارد..والذى حتمًا سيحتاج إلى من يحمله، من يربت على رأسه، من يؤخّر تحلله قليلًا حتى لحظة الدفن، من يأويه التراب، من يبكيه قليلًا ويقرأ له بعض آيات القرآن..مجهودات بلا طائل..بدا لى كل ذلك سخيفًا، وتمنيت لو تتحول أجسادنا إلى بخار فور موتنا، ألا يتسامى الثلج من فوره إلى بخار ماء أحيانًا، حين يقل كلا الضغط والحرارة عن النقطة الثلاثية؟ لم لا نفعل نحن أيضًا؟..أو لِمَ لا تأتى الحشرات فتشقّ أسنانها الدقيقة فى لحومنا، وتحيلنا عظامًا فور مغادرة الحياة أجسادنا، قبل أن تعود إلى جحورها ببطون مُثقلة كأن شيئًا لم يحدث..

حين حشوت المسدس وألصقت المعدن البارد بصدغى، شعرت بذلك الصوت فى عقلى يصرخ فىّ أن أفعلها الآن، حالًا..ماذا تنتظرين؟..يشيح بيديه -إن كانت له يدان- ويتطاير لعابه فى وجهى، إذ يصرخ فىّ آمرًا..متهمًا إياى بالتخاذل وعدم امتلاك الشجاعة الكافية لفعل أى شىء.

وكأن الموقف لم يكن ميلودراميًا بما فيه الكفاية، بدأت فى نوبة بكاء مثيرٍ للشفقة، لا زلت ألصق الشىء بصدغى، لكنى غير قادرة على اتخاذ قرار..هل سأظل هنا على هذا الوضع إلى الأبد، منحنية على الأرض، ملصقةً بذلك الشىء إلى رأسى..حتى يذوب المعدن ويلتحم بدماغى؟

من الجلىّ أننى لم أفعلها تلك الليلة، ولا فى الليلات التالية أيضًا..تحاملت على جسدى ووضعته عنوةً وسط الناس من جديد، هاتفت بعض الأصدقاء، تسكعنا وابتعنا القهوة، ابتعت بعض الكتب..وفى الحادية عشر ليلًا من كل يوم، كنت أضع المفاتيح فى باب شقتى عالمةً بأنه حالما سأصير بالداخل، فسيكون علىّ أن أضع أصابعى فى مكان ناءٍ عن غرفة أبى، حيث يكمن المسدس.

كان علىّ أن أمر كل يوم بباب حجرة أبى المغلق فى طريقى من الخارج إلى حجرتى، أكاد أسمع الشىء الأسود اللامع من مكمنه فى درج الكومود إذ يضحك منى ضحكةً رنانةً مُفخّمة تليق بلمعانه، يضحك من افتقارى للشجاعة، من تصلب مفاصل أصابعى، من تلك الحركة العصبية فى عينى، والتى كنت قد اكتسبتها وقتها ولم أعد أقدر على التحكم فيها.

مرت شهور منذ تلك الليلة، اختفى المسدس من مكمنه مع عودة أمى إلى المنزل، كانت تخشى أن يقوم أبى باستعماله فى نوبة من نوباته، فقامت باخفائه فى مكان ما..لكن لذلك قصة أخرى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من القطط والبشر.

مُولي.

شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (2)