شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (1)

كان الوقت صباحًا. ويبدو أن السماء كانت ثَمِلةً بعض الشىء، فقررت أن تبصق علينا قليلًا على سبيل المُزاح الثقيل..فتساقط رذاذُ الأمطار الحامضية فوق معطفىَّ الرمادىّ..نظرت إليها -السماء- فى حنق، ولوّحت بقبضة يدى فى الهواء فى توعّد، لكنى لم أتذمّر مزيدًا عن هذا، وواصلت السيرَعلى أسفلت الطريق. ولأُصدقَك القول، فقد كنت أنا أيضًا ثملة..فلم ألُم السماءَ كثيرًا على فعلتها هذه.
أسير فى شارعٍ من شوارع القاهرة، ورأسى قد تحول إلى حفل أورجى مرتجل لعازفى الآلات النحاسية..أكاد أرى (جيف مانجام) ومعه أصدقائه مالكى الأبواق والآلات الفلوكلورية، يتقافزون هنا وهناك فوق الفص الصدغىّ خاصتى -لو أن مساحة سطح فصىّ الصدغىّ كانت تكفى لفرقة فلكلور كاملة لتؤدى عرضًا فوقها بالطبع-

- سأعمل بوظيفة دوامٍ كاملٍ لأدفع لكم نقودَ تأجيرغرفة الأستوديو الخاصة بكم يا أعزائى، ستكون مبطّنة من الداخل بالقطيفة الزرقاء الفاخرة وعوازل الصوت، لكن فلتتركوا فصىّ الصدغىّ وشأنه قليلًا، هلا فعلتم؟

يصطدم كتفى الأيمن -بينما أتبادل المفاوضات مع فرقة (جيف مانجام)- بكتف امرأة بدينة كانت تسير حذائى..أشعر بكتل الدهن ترتج بجانبى على أثر اصطدامها بى..لم أستطع أن أراها بشكل جيد من وسط خصلات شعرى المبتلة التى كانت تخفى النصف الأيمن من وجهى وتلتصق بجبهتى..

"انتبهى أمامك يا شاطرة"
أومئ برأسى فى تفهّم، ولا أرفع عينىَّ عن الأرض، لكنّى أقدّر من صوتها أنها امرأة فى العقد السادس من عمرها، ترتدى عباءة لفّ وغطاء رأس أسود، وقد ترك كل عام من أعوامها رطلًا من الدهون فوق خصرها..
تمر الثوانى، فأظن أن اللحظة البسيطة من الزمن التى قُدّر لمصيرى أن يلتقى بمصير تلك المرأة قد انتهت عند هذا الحد، كما أننى لا أحبذ لفظة (شاطرة) هذه كثيرًا، فأستكمل سيرى من جديد، فقط لأسمعها تستطرد:
"انتبهى يا عزيزتى، لأن لا يمسسك غضبٌ من السماء، فالليلة سيرسل علينا بروقًا ورعودًا، ألم تشاهدى نشرة الشيخ فرخند لهذه الليلة؟"
تسترعى هذه الحميمية فى حديثها انتباهى، وكأنها تكترث لأمرى، تبغى مشاركتى خبرة سرية ما من شأنها أن تبقينى على هذه الأرض يومًا آخر..خبرةٌ ما لا يعلمها إلا متابعى الشيخ فرخند هذا بالطبع -والذى لم أكن قد تابعته يومًا-..
أستدير لأواجهها بعد أن كنت قد أدرت ظهرى لها، وأنظر لها من وسط خصلات شعرى المبتلة، نظرة فضولية..
 من بين خصلات الشعر استطاعت المرأة أن تلمح عينى اليمنى، تحدجها بنظرة آمرة مغزاها: "أسرعى أيتها الشمطاء فلتدل بدلوك..لدى سبعة آلاف خطوة أخرى علىّ أن أخطوها عبثًا حتى أفقد قواىّ..وسبعة آلاف لفافة تبغ أخرى لآويها إلى داخل رئتىّ -ولو أننى لن أجد شركة تبغ تحترم نفسها تستطيع أن توفّر لى هذا العدد من منتجهم الخاص-، ولكن -كما ترين يا امرأة- فليس لدىّ الكثير من الوقت الشاغر لعبثك الفارغ هذا.."

تنظر إلىّ بقسوة وتتجعد جبهتها، وأكاد أقسم أننى أرى أخاديد رقبتها تزداد عمقًا من أسفل قماش حجابها الأسود، قبل أن تقول: "ألم تسمعى؟، ألم تفهمى بعد؟ لقد قرر أن يحصد أرواح الخاطئات هذه الليلة بالذات، الحمقاوات اللاتى لم تمتثلن لأمره"
ثم تنظر إلى السماء الملبدة بالغيوم السوداء، والشمس التى صارت إلى أربعة أخماس قرص يختفى ببطء إلى مكان ما أسفل خط الأفق، وتقول:
"من الأفضل لكِ أن تعودى إليه نادمةً قبل بدء العاصفة. ولتضعى شيئًا فوق رأسك، فهو لا يحب رؤوس النساء المكشوفة"
ثم استدارت دونما أن تضيف كلمة أخرى، وحثت الخطا نحو الجانب الآخر من الطريق..فلو كنّا فى قصةٍ مصورة لسمعتها تضحك ضحكة مُجلجلة ذات صدى، كضحكات الساحرة سونيا فى كل مرة تظن إنها قد حَظَت بقرش الحظ.
ما الذى سمعته للتو على أية حال؟، لا أظننى ثملةً إلى الحد الذى يدفعنى إلى اختلاق وهم ثلاثىّ الأبعاد متقن إلى هذه الدرجة..هذا ليس تأثير الجعة بالتأكيد إن أردت رأيى..أعنى أن هذا كان ليكون أروع من اللازم لو كان حقيقيًا، لما احتجنا إلى الLSD ومضاعفاته إذن، فقط عليك بكأس جعة برىء، لتنطلق إلى عوالم باسمة من الوهم متقن الصنع، لن يكلفك هذا إلا 30 جنيهًا و القليل من الحرقة الخفيفة فى المعدة..
ولكن دعنا من الاستطرادات، يبدو أن شيئًا ما بالأعلى غاضب هذه الليلة..ويبدو أنه يمقت تكتلات الخلايا المصنوعة من الكيراتين والملتحمة بجلد الرأس -الشَّعر فى رواية أخرى- عند الإناث..ويبدو أن هذه المخبولة كانت تحذرنى من غضب هذا الشىء، لكن لماذا؟ لعلّها تكترث لأمرى؟ لعلّىَّ ابنتها بالرضاعة وأنا لا أدرى كل هاته السنوات؟ أو لعلها طيف جدتى الميتة يتجول فى طرقات القاهرة على شكل امرأة بدينة فظّة، لأن ليس لديه شيء أفضل ليُمضىّ الأبديةَ فى فعله؟ 
آهههخ دعنا من التساؤلات، إن كان هناك من يضمر لى الشر هناك بالأعلى، فأنا أدعوه للتقدم الآن..هيا واجهنى وقل لىّ أن كل شىء فعلته يومًا لم يكن إلا مصدر ازدراء وخيبة أمل لك..هلم..
أنظر إلى السماء المكفهرّة فى تحدٍ..باستثناء قطرة المطر الحامضىّ التى تقتحم عينىّ اليسرى، فإن شيئًا لا يحدث، وماذا علّه يحدث؟ لا شىء يحدث أبدًا فى هذه المدينة.
أستكمل سيرىّ فى الطرقات لا ألوىّ على شىء، أجرّ ساقىّ خلفى خطوةً بخطوة..أرسل الطرف أمامى، لأرى فتاةً ذات شعر أسود فاحم متموج، مسترسل فوق كتفيها، تخرج من إحدى محطات المترو، تصعد درجات السلم فى تأنٍ كأنها تملك كل الوقت بالعالم.. شىءٌ فى قسمات وجهها كان مألوفًا..أقف قليلًا أحملق فى هذا الوجه من مسافة ليست بالقصية..ثم أتذكر، أها، أتذكر أين رأيت هذا الوجه من قبل، لقد صادفته الليلة الماضية فى واحد من أحلامى، نعم نعم، هذه هى الفتاة التى طبعت قُبلة على شفتىّ فى الحلم، فتركت عليهما مذاق التوت والفراولة، أذكر أن الفتاةَ التى كانت تمثلنى فى عوالم الحلم قد راقت لها القبلة كثيرًا، راقت لها فكرة أن تقبّلها فتاة أخرى وأن تكون بينهما حميمية من نوع ما، على عكس أنا فى عالمنا هذا، لا أحبذ الفكرة كثيرًا، ولا تشعل بداخلى شهوات من أى نوع.

لكنى أجد نفسى مدفوعة تحت تأثير الكحول للتقدم نحوها، لأعيق الطريق أمامها، فتتقهقر بغتةً إزاء دخولى المفاجئ فى المشهد، ثم تنظر إلىّ فى فضول وتقول فى لطف: "همم كيف لى أن أساعدك؟"
أتأمل وجهها، ربّاه هذا الوجه قد خرج من أحلامى، تلك هى الفتاة التى قبّلتنى لا محالة، كانت لها عينان سوداون كشعرها، ووجه عظمىّ نحيل كجسدها، حسن علىّ أن أتماسك وألا أفصح عن شىء مما يعتمل بخُلدى، لابد أن أقول شيئًا، فيبدو أننى قد بدأت أخيفها بنظراتى الثابتة الصامتة هذه..
-مرحبًا، رأيتك فى الحلم الليلة الماضية وقد قبّلتنى وقد أحببت الأمر، أتمانعين التسكع قليلًا؟
آهه لا لا بالتأكيد لن أقول هذا..أعنى أننى أعى وأفهم جيدًا أننا فى قصة سريالية، لا يملك المنطق عليها كثيرًا من السلطة، قصة تقع أحداثها فى عالم تصبّ الكيانات بالسماء جام غضبها على سكان الأرض، وتمتلك النسوة البدينات الفظّات المتشحات بالسواد حكمةً لا يشى بها مظهرهنّ.
لكن لا، لا أريد أن أخيفها فتنفر منى، أقول لك ماذا؟ سأتفوّه بأول شىء يخطر على بالى..
"أتعرفين أنهم يطلقون على الكحوليات لقب (المزلّقات الاجتماعية)؟"
لدهشتى، يبدو عليها الاهتمام وتسألنى:
"لا، ماذا يعنى هذا بحق السماء؟"
تطمئننى هذه الاستساغة فى صوتها لأن أسترسل فى الحديث، فأردف قائلةً:
"أوه تعرفين..مزلق اجتماعى، المزلق هو ما يعرف بالLubricant بالإنجليزية، الكحوليات تؤدى نفس غرض المزلقات بالنسبة للاجتماعيات.."
لا يبدو عليها أنها فهمت مقصدى، فأبدأ فى السير، وأشير لها برأسى فى دعوةٍ لها لأن تسير بجانبى، وهكذا بدأنا نسير متثاقلتين جنبًا إلى جنب..أهمّ لكى أسترسل فى الحديث:
"يقولون أن الجعة تفتح بداخلك تلك الزهرة الاجتماعية المتوارية على نفسها، فجأة تجدين ما تقولينه، تشعرين برغبة جامحة فى الحديث والتعرف إلى الناس، ويبدو أن شيئًا لا يستطيع كبح جماح لسانِك، حتى وإن كنتِ تسلكين سلوك (زهرة الحائط) فى حياتك اليومية، فإن كأسًا من الجعة كفيلٌ لتغيير ذلك، فلأُلعَن وأُشنَق إن لم يكن كفيلًا لجعلك كتلك الفتاة المحبوبة ذائعة الصيت فى المدرسة الثانوية، ولو لبضعة لحظات، حتى ينحسر تأثير الدوبامين الزائد..تفهمين الآن؟ مزلق اجتماعى هه؟"
 أرسل طرفًا ناحيتها لأرى وقع كلماتى على وجهها، فأجدها تمطّ شفتيها وتقول: "آه تبدو التسمية منطقية الآن"
فأقول: "نعم أعرف، وأظن أن هذا بالضبط ما دفعنى لكىّ آتى وأحدثك الآن، ما كنت لأفعل ذلك أبدًا لو لم أكن..."
"آه أنتِ ثملة؟"
"قليلًا نعم"

***********************
يُتبَع، هذا كافٍ لليوم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

من القطط والبشر.

مُولي.

شىء ما بالأعلى غاضب الليلة. (2)