لا أدري. (3)
جلسنا قبالة بعضنا البعض، شقيقي وأنا، على إحدى طاولات ذلك المطعم الشهير، ننتظر قدوم وكيل المقابر. أسمعك تقول: "وكيل المقابر؟ أي شيطان هذا؟".. أعلم، أعلم، نحن أيضًا لم نعرف بوجود مثل هذه الوظيفة قبل شهرين من هذه اللحظة.
"هل تظن أنهم يرتدون بذلات وربطات عنق سوداء؟ سيكون هذا دراميًا." قلت وأنا أنظر إلى باب المطعم الزجاجي في ترقب.
هزّ شقيقي رأسه قائلًا: "آه أرجوكِ، الدراما هي آخر ما أتطلع إليه اليوم."
"هل أنت متأكد من أننا نريد القيام بذلك؟"
"لقد مرّ ما يقرب من العام، من الواضح أن على أحدهم القيام بذلك في مرحلة ما."
انفتح باب المطعم ليدخل منه رجلان يرتديان قمصانًا واسعة قصيرة الأكمام، ويرتدي أحدهما بنطالًا من الجينز الأزرق، بينما يرتدي الآخر بنطالًا قماشيًا مهلهلًا، لم يفلح في إخفاء وزنه الزائد.
دارا بأعينهما في المكان بشكل سريع، قبل أن يلمحا طاولتنا، أومأ صاحب البنطال الجينز برأسه إلى صاحبه وكأنه يقول: "ها قد وجدنا ضالتنا"..توجها نحو طاولتنا وعلى وجهيهما ابتسامتان وقورتان.
"مرحبًا، أنا هشام، وهذا مساعدي السيد أنور."
قالها الرجل صاحب البنطال الجينز، والذي بدا أصغر سنًا بكثير من صاحبه.
"مرحبًا بكما، تفضلا بالجلوس"
أفسحنا لهما مكانًا على الطاولة، فأزحت حقيبتي ونظارات أخي جانبًا.
تأملتهما سريعًا، لا تبدو عليهما أية ملامح تشي بما يفعلانه لكسب العيش، رجلان عاديان يطمحان لتناول غداء سريع بعد يوم طويل من العمل.
"لندخل في الموضوع مباشرةً، هل تريدان رؤيته؟ لقد التقطنا بعض الصور بالأمس، نريدكما أن تعرفا أن زبائن كثيرين يرفضون رؤية الصور، أو بالأحرى أي مادة مرئية جاءت من هناك، وهذا شيء مقبول تمامًا، لن نضغط عليكما بأي شكل."
نظرت إلى أخي في شيء من الرعب، أعني.. مَن قد يريد رؤية صور حديثة لوالده المتوفى منذ عام؟
عندما هاتفت ابنة عمتي منذ شهرين في يوم الذكرى السنوية الرابعة لوفاة عمتي، أخبرتني عن وكيل المقابر الذي استأجرته للعناية بقبر والدتها، لم أفهم في البدء ما تعنيه.
"وكيل مقابر؟ ماذا يعني هذا بحق السماء؟ أهو كشخص يزرع النباتات حول القبر ويعني بها؟"
فقالت ضاحكة: "لا ليس الأمرهكذا."
وشرحت لي بشيء من التبسط أن وكلاء المقابر هم أشخاص يحق لهم فتح القبر والعناية به من الداخل، يقومون بالاطمئنان على حالة أجساد الموتى، كأن يقيسوا نسبة الكبريت في التربة، أو أن يستبدلوا القماش الذي يغطي الجثة، وأن يتأكدوا من أن الجسد يتحلل بالمعدل المطلوب، يقومون بالتقاط صور لجسد الميت من أجل المقارنة بين وضعه هذا العام ووضعه في العام التالي، ويخزنون كل هذا في قاعدة بيانات خاصة بهم من أجل تحسين خدماتهم.
لم أستطع إخفاء ارتياعي مما قالت.
"هل تعنين...؟ بالتأكيد تمزحين."
"على الإطلاق، أنا لا أمزح، أرسلت لي الشركة أحد وكلائها الأسبوع الماضي للعناية بقبر ماما قبل ذكراها السنوية، أشعر بالراحة وأنا أعلم أنها تستريح الآن في قبرها أكثر من ذي قبل."
"كيف..؟ كيف وافقت الحكومة على وجود هكذا وظيفة من الأساس؟ كيف مرّ هذا الأمر من تحت أنوف الإسلاميين؟"
ردّت في شيء من السخرية: "نحن لسنا في العام 2022 بعد الآن، الناس متعبون، خوض العراكات الدينية أصبح مجهودًا شاقًا لا يناسبهم، صار الجميع أقل تطيرًا من الأيام القديمة."
صمتت لبرهة لا أدري ما أقول، أردت أن أعرف منها تفاصيل أكثر، لكنها وفرت عليّ عناء السؤال وقطعت الصمت قائلة:
"على فكرة، لقد رأيت ماما، لا تبدو بأية حال مثلما أتذكرها بالطبع، الأمر كما لو أن الموت يضعك في جسد جديد، كمن يولد من جديد، أليس هذا شاعريًا؟"
تطلب الأمر مني بضعة ثوانٍ لأفهم ما ترمي إليه.
"رأيتها؟ عمتو؟ تعنين.. صورًا حديثة؟"
"نعم، أخبرتك أنهم يلتقطون صورًا، تساعدهم في الدراسة التي يقومون بها عن التحلل."
"لا أصدق، هذا.. أعني.. لا أعلم كيف عليّ أن أشعر بشأن هذا.. أعني.. ما الهدف من ذلك يا صفاء؟ إنهم أموات لا يشعرون بشيء، لا يرغبون في شيء، لماذا قد يرغب الميت في الحصول على غطاء جديد غير ذلك الذي نخرته الحشرات؟ هل يشعر بالبرد ليلًا؟ لا! إنه لا يفعل! حقًا أنا لا أفهم."
قالت في جفاء: "أوه دعكِ من كلام الفيزيائيين هذا، أتظنين أنني لا أعرف كل هذا بالفعل؟ بالطبع أعرف أن المخ يفنى ومعه يفنى كل شيء، أعرف أنهم الآن في مقام من لم يولد قط، لكني أحب أحيانًا أن أتخيل أن هناك أكثر من ذلك في هذا العالم، أن هناك جسدًا وهناك روحًا بداخله، أنهم يراقبوننا من مكان ما، ويشعرون بأقدامنا تمشي فوق تراب قبورهم، ويشاهدون أجسادهم وهي تتحلل ويأكلها الدود، غير قادرين على تحريك إصبع لمنع ذلك، لكنهم موجودون، لم يعودوا يستخدمون أعصابهم في الشعور بالأشياء، ولا أعينهم ولا آذانهم، وتجمدت دماؤهم وتفجرت من فتحات أجسادهم، لكنهم موجودون، أجسادهم -أو ما تبقى منها- لا تزال موجودة، وتستحق أن نعني بها، كما كنت أعني بجسد أمي وأحممه في حوض الاستحمام قبل موتها، إنه الجسد نفسه الذي كنت أحممه من قبل راقدًا في غرفة تحت التراب، وسأستمر في العناية به حتى يصير ترابًا.."
"امممم..."
أردفت: "هيا قولي لي، كيف تجزمين بأن شيئًا ما موجود؟"
قلت: "ربما لأنني أرى هذا الشيء بعينيّ؟"
فقالت: "نعم، بالضبط، وإذا فتحنا هذه القبور فماذا سنرى؟ سنراهم، سنرى أجسادهم، ستكون قد فقدت بعضًا من رونقها، لكنها موجودة، نشعر بها ونراها، إذن فهم موجودون، ألا ترين ما أرمي إليه؟"
صمتت لوهلة ثم استطردت: "أعرف، أنا منافقة أقول ما لا أؤمن به، هيا وبخيني."
قلت ضاحكة: "لا لا، لا عليكِ، أنا أتفهم ذلك كل التفهم، إذا كان هذا يشعركِ بالراحة، فمن أنا لأعترض؟ أعني.. لقد قالها كامو من قبل.."
وقلنا في صوت واحد من دون اتفاق مُسبق: "اعتَنِقوا العبثية."
ضحكنا من هذا التناغم غير المتوقع، ثم أغلقت الخط بعد ذلك بقليل.
تذكرت كل هذا وأنا أنظر في عينيّ أخي الجالس قبالتي، ووكيلا المقابر ينظران إلينا في ترقب، يمسك أحدهما مظروفًا يبدو أنه يحوي صورًا، وينتظران قرارًا منّا..
نظرت إلى الرجلين، وقلت: "لقد مر عام كامل، والآن، أريد أن أرى بابا من فضلكم."
وكلاء مقابر حقا !
ردحذفهل يوجد وظيفة كهذه؟
لأ طبعًا :"D
حذف