المنضدة.
اليوم، حرّكت أمي منضدة السرير الخاصة بأبي من مكانها لأول مرة منذ ما يقرب من العام ونصف. استيقظت على أصوات تحريك الأثاث، ورائحة البخور التي تخبرني دومًا أن أمي في مزاج طيب اليوم للقيام بالأشياء. في طريقي إلى صالة بيتنا، لمحت فراغًا في غرفة أبي، كانت مكانه تلك المنضدة التي كانت يومًا بجانب سريره، قبل أن يحركها أعمامي وخالي والمغسّل إلى ركن الغرفة، ليفسحوا مكانًا لتغسيل جسد أبي ظُهر يوم موته. ومنذ ذلك اليوم ولم تجرؤ أمي على تحريكها إنشًا من مكانها، بل ولم تلمس شيئًا من الأغراض التي كانت عليها، حتى اعتلاها ركام من التراب. اليوم رأيت هذه المنضدة نظيفة وسطحها لامع خال تمامًا من الأغراض لأول مرة منذ فترة طويلة. وإن دل ذلك على شيء، فإنه دليل آخر جديد يصرخ في وجهي بأن أبي لم يعد هنا بعد الآن، اختفت علامات وجوده المتبقية. اعتدت أن أحدق في هذه المنضدة في الليل حين تنام أمي. أحدق في قنينة الكولونيا الخضراء، تلك التي كانت بجانب سريره ذلك اليوم حين كنا نحاول إفاقته، فأمسكت حينها تلك القنينة ورششت بعضًا من الكولونيا على رسغي الأيسر، وقرّبتها من أنفه على أمل أن يستنشقها ويفيق، لكنه لم يفعل بالطبع. هااه لا زالت رائحتها في أنفي.
اعتدت أيضًا التحديق في زجاجة العطر الحمراء تلك، اشترتها أمي في خريف العام 2019 لأخي من أحد تجار العطور الذين يصنعون التركيبات، لكنها لم ترق لأخي، فأعطتني إياها أمي وأخبرتني أن أهديها لأبي في عيد ميلاده. وقد فعلت، أهديتها له يومًا بعد يوم ميلاده بشهر كامل تقريبًا. كان ممتنًا كثيرًا يومها، استطعت أن أرى كم كان يفتقد الشعور بأن أحدهم يهتم لأمره. لكنه عاتبني لأنني لا أزوره في غرفته أبدًا، ولا آتي لرؤيته. قال لي، أتعرفين تلك الآية عن بر الوالدين، ثم تلاها عليّ "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا"
كان ذلك إقرارًا من أبي بأنه رجل كبير في السن، "يبلغن عندك الكبر"، وكان ذلك غريبًا بالنسبة لي، أن يعترف أبي بالهزيمة أمام الزمن. ولكني -حتى حينها- لم أدرك كم كان متقدمًا في السن، كم كان قريبًا من الموت. ظننت أن أبي سيعيش إلى الأبد.
أما عن تلاوته لتلك الآية، فقد كانت تلك طريقته الخاصة ليقول لي إنه يفتقدني، ويتمنى لو أنني قضيت وقتًا أطول معه، ولكنني كالحمقاء أومأت برأسي في عدم فهم -أو في تظاهر بعدم الفهم- وأخبرته: همم هل تريد شيئًا آخر يا بابا؟، ثم غادرت وأنا أهز رأسي في أسف، لسان حالي يقول: لقد فعلت ما بوسعي، ماذا عساي أن أفعل؟ كانت تلك من آخر المرات التي تبادلت معه الحديث تقريبًا. شيء باعث على البكاء، ألا توافقني الرأي؟
كان أبي يحتفظ بزجاجة العطر تلك إلى جانبه على المنضدة، بجانب رأسه تمامًا، وكنت أبكي دومًا لدي إدراكي ذلك، كان الرجل يحبني كثيرًا، وأنا قد أعطيته تلك الزجاجة كتحصيل حاصل، لم أفكر، لم أبذل مجهودًا للبحث عن هدية له، لم يكن في نيتي شراء هدية أصلًا. كنت منهمكة كثيرًا في حماقاتي الخاصة.
كانت على تلك المنضدة الفرشاة التي اعتاد أن يستخدمها على شعره مع مجفف الشعر أيضًا، معجون الحلاقة خاصته، وفرشاة الحلاقة التي كان لها مقبض أحمر حال لونه مع الزمن.
أذكر حين كان أبي يحلق ذقنه أمام مرآة الحمام في شقتنا القديمة، كنت أمر عليه وأخبره أن يضع لي قطعة من معجون الحلاقة على وجهي، فيضحك ثم يمسح على وجهي بالفرشاة، متجاهلًا صراخ أمي له بألا يفعل. أو حين كان يغطي ذقنه بالمعجون تمامًا، ثم يزم شفتيه حتى يتسنى له وضع المعجون حول فمه دون أن يلطخ شفتيه. فتبدو شفتيه حمراوتان وسط كل هذا اللون الأبيض، كما لو كان يضع أحمر شفاة.
أذكر أيضًا حين كنت أساعده في الحلاقة في آخر شهور حياته، لم أكن أجيد الحلاقة له بأية حال، وكانت أمي تأتي لإكمال المهمة دائمًا. لم أستطع أبدًا حلاقة ذلك الجزء تحت رقبته ولغده، إذ أن آثار جلطة المخ التي أصابته تركت ركن فمه وذقنه متدليان، فكان من الصعب رفع ذلك الجزء لحلاقته.
تمنيت لو التقطت صورة لهذه المنضدة قبل أن تزيل أمي كل شيء من عليها، لو حفظت مكان كل غرض عليها عن ظهر قلب. كانت الأغراض عليها تحكي قصصًا عن آخر أيام أبي، زجاجة العطر، قنينة الكولونيا، أدوات الحلاقة، الكرة المحشوة بالإسفنج التي اعتاد أن يقذف بها إلى الحائط، المشط، الكاميرا خاصته، هاتفه، وأشياء أخرى ضلت طريقها في ذاكرتي طويلة المدى.
تعليقات
إرسال تعليق